ضرب الإسلام بجرانه وانتشر المسلمون في بقاع الأرض، ودخل الإسلام أمم كثيرة من أجناس مختلفة وعناصر متباينة. فكانت ساحة الإمبراطورية الإسلامية في العصر العباسي الأول وعاء تصهر فيه العناصر وتتفاعل فيه الأجسام. هذه الأمم تختلف في الصفات الجثمانية وفي الأهواء السياسية والميول الاجتماعية. وكما يحدث تزاوج واختلاط بين الأجناس، كذلك يحدث امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، فنمت الحضارة الإسلامية على أساس العلم الواسع بكافة شئون الحياة من طب وهندسة وجغرافية ونظام حكم وأدب لغة. . كانت هنالك أربع حضارات: الفارسية والهندية والإغريقية والعربية. وكانت كل ثقافة في أول الأمر تشق لنفسها جدولا خاصا له طعمه ولونه ثم لم تلبث أن التقت جميعا وكونت نهراً عظيماً. وقد التقت في هذا الميدان الرحيب الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام. واختلف الناس فمنهم من يرد جدولا معيناً ومنهم من ينهل أكثر من جدول.
وقد تمثل امتزاج الثقافات بأجلى معانيه في ثلاثة أعلام: الجاحظ، وابن قتيبة وأبو حنيفة الدينوري. وكان للحضارة الفارسية الفضل في إنشاء منصب الوزارة وكان غالباً يسند إلى الفرس، ولم يكن معروفا قبل العباسيين. وتغلغلت العادات الفارسية في النفوس مثل عيد النيروز ولبس القلنسوة ومجالس اللهو والغناء. وقد لاحظ ابن خلدون أن حملة العلم في الدولة الإسلامية كان أكثرهم من العجم لأن العلوم من الصناعات وهي من خصائص الحضر.
ومن هؤلاء سيبويه وأبو حنيفة النعمان وبشار بن برد والكسائي والفراه وغيرهم. أما تأثير الحضارة الهندية فكان في شيوع الإلهيات (المقالات الدينية) والرياضيات والنجوم والقصص والحكم. ويذهب كثير من الباحثين إلى أن الهنود هم واضعوا الشطرنج ومنهم أخذ المسلمون وانتشر في العالم. أما عن الحضارة اليونانية فقد كانت هناك مدارس ومراكز ثقافية أشهرها في الإسكندرية وحران. وقد نقل الكثير من فلسفة اليونان وعلومهم في الفلسفة والطب والمنطق. ولعل لأهم ما نتج عن احتكاك الحضارات ما أخذه الخلفاء من مظاهر الأبهة ودلائل النعيم في قصورهم، فكان الخليفة لا يقل عظمة من قيصر الروم أو