لهم قبل أن تغشى عيونهم بنور الشمس رمز الحق والخير والجمال. فلن تزكو النفس إلا بتذكر ماضيها المجيد، ولن تبلغ سموها بالعلوم التجريبية البالية وإنما بالحساب والموسيقى والهندسة والفلك تتيقظ على عالم المثل الباقية الخالدة والتي هي أسباب المعرفة والوجود جميعاً، التي تذكرها علم، ونسيانها جهل. ويقول في (فيدروس) و (عندما تعجز النفس عن طلب الحق وتفشل في الحصول عليه، يسقط منها الجناحان، وتهوى إلى الأرض. . أما النفس التي لم تر الحق قبلاً فلن تأخذ الصورة البشرية، لأنه لا بد للإنسان من معرفة بالكليات وقدرة على الانتقال من الجزئيات الحسية إلى المعنى العقلي، وذلك هو استجماع هذه الأشياء التي كانت النفس قد رأنها من قبل في سبيلها إلى الله عندما رفعت رأسها تستشرق الموجود الحق).
لم يستطع أفلاطون أن يتعرف خصائص العقل في ذاته، فولى وجهه شطر مصدره الأسمى وهو الله مثال المثل. وإن كان في طريق النفس إلى المثل صاعدة ومنها نازلة قد رسم أفلاطون سبيل الخلاص بالتزكية النفسية وهو سبيل إن كان حظ الحقيقة فيه أقل من حظ المثال إلا أن المثال نفسه من خلق العقل وابتكاره.
أما أر سطو فقد نظر إلى العقل. فعنده العقل المنطقي في (البرهان)، والعقل الأخلاقي في (الأخلاق) والعقل الاجتماعي في (السياسة) والعقل السيكولوجي في (النفس)، والعقل من حيث هو عقل في (الميتافيزيقيا) حيث قسمه إلى أربعة: عقل بالقوة، عقل بالفعل، عقل مستفاد، عقل نعال. وسار بنظرية العقل، بنظرية العقل حتى وصل بها إلى الله (عقل العقل) الذي يتأمل ذاته لأنها أشرف ذات. وشرف العقل إنما جاء من شرف موضوع لعقله، والموجودات تنزع إلى كمالها بالاشتياق إلى الله. وبذلك تفادى أر سطو مشكلة، كيف يتصل آلا حسي بالحسي؟
وبهذا المجهود العنيف كان أر سطو جديراً بأن يخلع عليه لقب (العقل) أو (عقل المدرسة). ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى تطور فكرة العقل الأرسططاليسي عند تلاميذ أر سطو وشرحه وأنصاره وخصومه من المسلمين وغيرهم في القديم والوسيط والحديث. وذلك لاختلاف الأنظار في فهم عقل أر سطو اختلافاً لم نشهد له مثيلا في تاريخ المسائل الفلسيفة.