للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ظاهرة أو خفية.

تاريخ الإنسانية هو تاريخ عباقرتها وآثارهم فيها، فلو انتزعوا من تاريخها لم يبق لها تاريخ.

تاريخ الإنسانية عمل فني، عنصر الفن الأصيل فيه وينبوعه هو العبقرية، ولذلك لا يحسن كتابة تاريخها إلا فنان.

تاريخها صور العبقريات المشرقة، وانعكاسها من نفوس الناس.

وتاريخها عزف لأصوات العبقريات وأصدائها في نفوس الناس.

وما لم يكن نور فلا انعكاس، وما لم يكن صوت فلا صدى.

ومن لم يشعر بالتاريخ شعور الفنان لم يع من التاريخ حرفاً، ولو استوعب الزمان والمكان من البدء إلى النهاية. ومن لم يعبر عنه كما يعبر الفنان عن شعوره بما يجيش في نفسه لا يكتب منه حرفاً، ولو أن ما في الأرض من شجر وغيره أقلام، ومياه البحور مداد، والأرضين والسماوات صحائف يسود وجوهها بجهله وغبائه.

لا يستجيش في نفس الإيمان الكامل الخالص شئ في الإنسانية إلا العبقرية.

ولا يستحوذ على أيماني كاملاً خالصاً أحد من الناس إلا العباقرة.

وما ساورني شك في أنه لا توجد نفس إنسانية أبداً تخلو كل الخلو من نور العبقرية أصيلاً فيها، وكل الفرق بين العبقرية الشامخة والعبقرية المطموسة هو الفرق بين نور قوى عظيم يتدفق في النفس فيجرف السدود والحدود؛ ويفيض على الجوانب فيظهر ويبهر، ونور ضعيف ضئيل يبض قطيرة فقطيرة في غور سحيق من وراء سدوده وحدوده المطبقة عليه أطباقا، فلا تراه عين، ولا تسمع بخبره أذن حتى يتلاشى في التراب. وبين هاتين المرتبتين مراتب لا يحيط بها إلا علم الله، تظهر أو تظهر حسب قوتها والظروف المهيئة لها.

إن العبقرية أهل للتقديس على اختلاف مشارقها: كيفما أشرقت، وأينما أشرقت، ومتى ما أشرقت.

لا يختلف في تقديس عبقري عن عبقري باختلاف ميدانه ولا مكانه ولا زمانه ولا آثاره، ولكن بحظه من العبقرية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>