بين لبن الأشعث والحجاج أزهقت من المسلمين نفوساً كثيرة لو صرفها أصحابها إلى الفتوح لأوغلوا في البلاد. وانتهت هذه الحروب بظفر الحجاج، فأمكنه الله من سعيد بن جبير بعد أن نقض العهد وبايع لبن الأشعث، ففتله بعد أن حاكمه، وكان خصمه وحكمه.
ويختم المؤلف على العصر الأموي بخاتم البحث، ليفتح باب العصر العباسي على مصراعيه كما يفتح باب المحكمة عن بهوها الكبير وحكامها الجبابرة، فأدخل على القضايا العباسية الكبرى.
وكنت أوثر لأدب، فيجتذبني بشار بن برد إلى قضيته، فأشهد محاكمته مع الزنادقة في عهد الخليفة المهدي.
وقد كان المؤلف أشبه عندي بالمدعي العام، يصور للمحكمة جرم المتهمين حسب رأيه ووفق نظريته، ثم يحملهم على غوارب الحكم حملاً. وهاهنا لم يجتذبني المؤلف ولم يغير من رأيي في مقتل بشار فلقد راح بجمع النصوص من شعر بشار، وأخبار الزنادقة وشرطة الملحدين الذين كانوا مكلفين بالتتبع يحملون أخبار العقول والألسنة إلى الخليفة، وقد صنع المؤلف كل ذلك ليهيئ الحكم على الشاعر بأنه قتل من أجل هجائه وفحشه أو بسبب زندقته وإلحاده. والصحيح عندي أن الذي قتل بشاراً السياسة. فقد استبد الوزير يعقوب بن داود بالكم دون المهدي. وكان بشار من الأحرار لم يستعبده أدبه فما تملق الخلافة ولا ذل للسلطان وكان شعبياً يؤثر أن ينفخ في الأمة بوق الثورة من أجل حياة أسمى. فكان من قوله:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود
كذلك أخطأ التاريخ، وظن المؤرخون ووهموا. فقتل عندهم بشار بن برد من أجل الزندقة والفحشاء. وقتل عندي من أجل السياسة والثورة. لقد كان طيب الفؤاد فلم يهج غير من استحق الهجاء. ظلمة مجتمعة فنقم لنفسه من ذلك المجتمع الظالم ومن مس العقرب لسمته إبرتها. بذلك نفي الحق بين الأنام. لقد وجد ناس في إسقاط بشار بعد موته هذه الكلمة النبيلة:
- إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم، فذكرت قرابتهم من رسول الله عليه وسلم،