فالعباقرة مشغولون غالبا بإخراج آثار عبقرياتهم عن مزاحمة الناس على مناعم الحياة ولذائذ الدنيا. وما من عبقري شغله ما يشغل غير العباقرة وزين له كما زين لهم (حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث) لأنله في تحقيق رسالته المستمدة من عبقريته شاغلاً يستغرق كل اهتمامه أو يكاد، عن كل هذه المطامع العابرة التي تستغرق كل اهتمام من لم توكل إليهم رسالة من رسالة الغيب، وقد تذهل العبقري رسالته عن أموره الخاصة، فيزهد في كل ما في أيدي الناس مما لا يعنيهم غيره. وفي هذا الزهد ما يخفف حسد الناس وحقدهم على العباقرة، بما يتركون لهم من التفوق عليهم في الأمور التي تعنيهم، وعدم منازعتهم إياهم في ميادينهم التي تستلفت كل اهتمام، ولا حيلة لهم ولا مطمع في التبريز إلا فيها كجمع الأموال واقتناء العقار والقبول عند النساء وترف المعيشة وتحصيل العلوم ونحو ذلك مما يخرج عن نطاق الرسالة وليس ركناً فيها ولا شرطاً من شروطها، وقد ينزلون عن أملاكهم وسلطانهم، وفيها من كان ملكاً فعدل عن أن يسوس رعيته سياسة الملوك، وساسهم سياسة الأب أبنائه أو الأخ أخوته في تواضع وزهد ومحبة، وتمسك بنشر عقيدته كما يؤمن بها معرضاً بذلك ملكه ونفوذه الدنيوي للضياع فداء عقيدته.
ووضع النبي يختلف أمام الناس عن وضع غيره من العباقرة ولو كانوا من دعاة العقيدة من حيث حسد الناس إياه على ما يتمتع به من امتياز، لأن امتيازه بالنبوة - كما يفهم هو ويفهم من حوله ليس إلا منحة من الله لا فضل له فيها، وهو في غيرها - كما يفهم هو ويفهم الناس حوله - ليس إلا إنساناً مثلهم لا يميزه منهم فضل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وفي ذلك ما فيه مما يهون أو يمحق حسد الناس إياه وحقدهم عليه في فضله عليهم بالنبوة.
هذا إلى أن النبي أزهد من كل من عداه من العباقرة في تلك المطامع التي أشرنا إليها قبل، فهو يعيش عيشة إزهاد المتقشفين في طعامه ولباسه ومركبه وأداته وسائر حاجات حياته اليومية، ويلزم أهل قرابته معيشة كمعيشته، مما لا يصبر عليه إلا (أولو العزم) ولو نشئوا على الترف والبذخ في قصور السيادة والإمارة وهو في سعة أفقه الروحي، ومعرفته البدهية للناس أكثر من معرفتهم أنفسهم، وعلمه بما ينطوون عليه من ضعف وسخافة