وأقبلت الثورة الفرنسية تلتهم الأخضر واليابس، وتدمر معالم الحياة، وأطلت البرجوازية، وحل المال محل سائر القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية، فوجد اليهودي نفسه فجأة فوق قمة المجتمع الإنساني بما لديه من مال، وانفتح أمامه مستقبل لم يحلم به أبداً.
وفي هذه المرة كان بإمكان اليهود النجاة بأنفسهم والعيش هادئين، ولكن الغرور سول لهم أن يفرضوا أنفسهم على الدنيا وأن يستعبدوا العالم بأسره.
وظهر رد الفعل شديداً في أسبانيا، وذاق اليهود من الكنيسة ألواناً من العذاب فهاموا على وجوههم، ووجدوا في العالم العربي الصدر الرحب الذي لا يضيق، والتسامح الديني الذي يفرض على المسلم احترام أهل الكتاب، والقلب الرحيم الذي يضع البلسم على الجرح الدامي، وحذت البلاد النصرانية حذو أسبانيا فوقع اليهود أمام اضطهاد منظم رهيب. كان اليهود على الدوام يلقون اللوم على مضطهديهم، ولم يدر بخاطرهم أن يوجهوا بعضاً من التقريع إلى أنفسهم.
وهنا تبتدئ مرحلة جديدة أمام اليهود في التاريخ، تلك هي مرحلة التردد بين الاندماج والتكتل.
أن الاضطهاد المنظم، والمال الوافر، جعلهم يفكرون في موطن أو دولة وخرجوا من التفكير الطويل فرأوا أنفسهم أمام حلين لمشكلتهم:
الحل الأول: أن يندمجوا بسكان البلدان التي يعيشون فيها وتختفي مع الزمان العلامة الفارقة التي تميزهم عن الناس.
الحل الثاني: أن يبقوا منعزلين انتظاراً للوقت الذي يفتشون فيه عن وطن لا ينازعهم في ملكيته أحد. وفي الحيرة بين هذين الحلين بقي اليهود هائماً في الظلام يتخبط في تيار الزمن متردداً.
وإذا عدنا إلى الماضي البعيد، منذ ألفي سنة، نرى، نرى فيلسوف الإسكندرية اليهودي قيلون ينتصر لفكرة اندماج اليهود بالشعوب التي يعيشون بينها حين يقول: (لم يعد اليهود بسبب عددهم قادرين على أن يعيشوا في بلد واحد. ثم أنهم يعيشون الآن في أغنى البلدان من أوربا وآسيا فينبغي أن ينظر اليهود إلى أورشليم اليوم وغداً على أنها مقر أصله الخلقي وإنها مكان مقدس، على حين أن البلد الذي يسكنه هو وطنه الذي يعيش فيه كما عاش أبوه