وهناك بعد هذا كله ضرب آخر من الانفعال أسوء عاقبة وأشد أثراً، تعنى به انفعال الأمة بأمة أخرى في كثير من مقومات حياتها وإلهام من أمورها. وقد افرد ابن خلدون هذه الناحية بفصل من مقدمته، هذه المقدمة التي يجب أن تقرأ مراراً ومراراً بالتفات وفهم عميقين:
لقد ذكر مؤسس علم الاجتماع سببين لهذا الداء يرجع ثانيهما للأول، وكلاهما مرده سوء ظن المغلوب بنفسه، وحسن ظنه بالغالب في كل أموره.
وهذا الذي يراه فيلسوف علم الاجتماع صحيح في جملته وتفصيله، صحيح اليوم كما كان صحيحاً في الماضي. على أني أبادر فأقول بأن الغرب قد أخذ عنا الكثير في العصور الوسطى من الفلسفة والعلوم، فلا تثريب علينا أن نأخذ عن أمة أخرى بعض مظاهر حضارتها. ولكن العيب كل العيب أن تفني شخصية الأمة، أو تكاد، في أمة أخرى بما تقلدها في أمور وأوضاع هامة خطيرة وبما تطرح من مقوماتها الأصلية في سبيل ما تصطنع من ذلك عن الأمم الأخرى. وكل ذلك لا لشيء إلا لأنها تحس ضعفها وقوة تلك الأمم فتعتقد فيهم كمال الجنس والتقاليد، متناسية أن الله يداول في الأيام بين الناس، وأن من الممكن الأخذ عن الغير دون الفناء فيه.
إن أول مقوم للأمة من الأمم دينها، وديننا وهو الإسلام هو كما تعرف عقيدة وشريعة، وقد أشتمل على ما يمكن أن تحتاج إليه دولة من نظم وتشاريع. وقد نسي أولو الأمر فينا هذه الحقيقة البديهية فراحوا منذ زمن بعيد يلتمسون لدى الغرب كثيراً من نظمه وتشاريعه؛ مع أن كثيراً من هذه النظم والتشريعات ثبت إفلاسه، ومع أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عما إذا كان الإسلام يحتوي خيراً منها أم لا.
إن هذا الصنيع، أي الأخذ عن الغرب وأتباعه في كثير من الأمر لم يقف في حدود ما هو ضروري مثل الصناعات والأمور الفنية، ولكن تعدى إلى العادات والتقاليد التي ترجع في أسسها إلى الدين، كما تعدى إلى الشرائع والقانون كما أشرنا إليه من قبل.
حقاً، لقد فشا عندنا منذ زمن بعيد عادات وتقاليد ليست في شيء من الإسلام أو من تقاليدنا المستمدة من التاريخ، وهي آخذة في الانتشار والذيوع من طبقة إلى أخرى، وكل هذا ليس من شأنه إلا أن يحط منا كأمة لها دينها وتاريخها وتقاليدها الخاصة بها. ولست أراني في