أريد أن أعيش حراً طليقاً أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقاً أولئك، ولا خاشياً هؤلاء. .)
وقد يكون مصدر هذه الحرية الشخصية التي أدركها الناس فيما يقولون وما يدركون؛ راجعاً إلى الحرية السياسية التي أصاب الناس بصيصاً منها على يد الحكام، بعد أن انتقصها السابقون وجار عليها السادة الغابرون، فقد عرف إسماعيل باشا أنه مسئول عن رقي الأمة المصرية، فعمل على إحياء ما يبعث الأمل في قلوبهم ويقوي الرغبة في نفوسهم، فمنحهم بعض الحقوق الدستورية، وقد حدث ما يشبه هذا في الشام والعراق، على يد مدحت حينما طالب الناس بالدستور، ولكن ذلك كله لم يطل أمره، فقد تغيرت الأحوال وتبدلت الشئون.
وقد يكون مصدر هذه الحرية العلم الذي انتشر وذاع وتملأه الناس: فالعالم أحرص الناس على كرامة نفسه، والاعتزاز بمكانتها، ولهذا أنف الشعراء بعد هذا أن تسد في وجوههم طرق الصراحة والتماس الحق، والتغني بالجمال حيث كان.
وقد ساعد على نمو هذه الحرية، رخاء العيش في ذلك الزمان كما أدركوا إعجاباً وتشجيعاً من الجمهور، فطبعوا ما أنتجته قرائحهم، ووجدوا من يقدر هذا الإنتاج، ويقبل عليه، فحصلوا على المال دون إراقة لماء الوجوه.
ومن أسباب رقي الشعر في هذا العهد، أن الناس قد شعروا بشيء من الكرامة والعزة، فانتبهوا إلى ماضيهم المجيد يقلبون صفحاته، وينقبون عن صفاته، فوجدوا الفخر كل الفخر في مجد آبائهم العرب، فالتمسوه في أخبارهم وأشعارهم وكتبهم؛ وساعدهم على هذا الاتجاه المطبعة التي صارت تقذف إليهم كل يوم بذخائر المسابقين وكنوزهم - فعلموا بعد هذا - أنهم أضاعوا المجد وعبثوا بالتراث، وأنه من الخير لهم أن يقووا أنفسهم عن طريق التعصب للقومية العربية، فهي خير القوميات وأكرمها، فكان هذا التعصب من أسباب قوة الشعر ونهضته وما هتف هاتف قبل الشيخ إبراهيم اليازجي بمثل قوله:
وما العرب الكرام سوى نصال ... لها في أجفن العليا مقام
لعمرك نحن مصدر كل فضل ... وعن آثارنا أخذ الأنام
ونحن أولو المآثر من قديم ... وإن جحدت مآثرنا اللئام