عناء، ولا يصرف وقتهم في التماس الزينة، واصطياد الزخارف. على أنهم وجدوا طلبتهم فيما بعثت به المطبعة من أشعار الفطاحل في عصور العربية الزاهرة: فقد وجدوا جريراً والفرزدق والأخطل والكميت وقطري بن الفجاءة وإضرابهم إذا ما عالجوا الشعر، دفعوا إلى المعاني في أسلوب قوي رصين لا يشوه من جماله، ولا يحد من بلاغته تلك الزخارف الكثيرة التي مسخت طبيعته بعدهم نحو ألف من الزمان، وحالت دون تحليقه في كل سماء، واندفاعه إلى كل غاية
وبعد فإنه لا يختلف اثنان في أن البارودي بما انتج من شعر رصين كان بداية عهد جديد للشعر حط عنه قيوده وأغلاله، وبعث فيه الحياة فجال في كل فن، واستبق إلى كل غاية، فلم يقصر دون اللحاق بالفحول السابقين، ولم يدركه ما أدرك شعراء زمانه من فتور القريحة وركود الذهن.
بل لا يختلف اثنان، في أنه أول شاعر أحس قيمة الشعر وقيمة النفس؛ فترفع بهما عن سفساف المطالب، وزري المقال وتغنى كما يتغنى صادح الأيك على سجيته: فبكى وابتهج واشتكى وافتخر وعاتب وحن إلى الديار، وصور الجمال ولم يمدح إلا عن يقين، أو لرد جميل سلفت أياديه عليه؛ فكان بهذا نسيج وحده في القرن التاسع عشر. وإن لم يطلب بشعره كل ما نريده من الشعر في وقتنا الحاضر، ويكفيه أنه رائد الركب إلى الغايات الكريمة، ولا نذكر هنا من شعره المثل أو المثالين؛ إلا لنعرض في هذا المقام لوناً جديداً من شعر جديد، لم يشنف الأذن في الكلمة شبهه، ولم يطرق القلب نظيره، والحق أن كل شعره فاتن خلاب، يحمل المتخير على الحيرة فيما يأخذ وما يدع
ومن الأمثلة التي تدل على تيقظه السياسي قوله يخاطب الخديو:
سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجري عليها كل راع مرشد
فمن استعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد
أمران ما اجتمعا لقائد أمة ... إلا جنى بهما ثمار السؤدد
جمع يكون الأمر فيما بينهم ... شورى وجند للعدو بمرصد
فالسيف لا يمضي بدون روية ... والرأي لا يمضي بغير مهند