نعم، ليست الصلة الشخصية بين العبقري وغيره صلة ذهن بذهن، ولا استمتاع عين بمنظر إنسان عجيب، بل امتزاج تتسلط فيه شخصية مغناطيسية بكل ما فيها من قوى طاغية على شخصية قابلة للانجذاب إليها، متفتحة لتقبل ما تفيض به عليها.
هنا فيض شخصية في شخصية لا يسهل حصر حدوده ولا طرقه، لا نقل معلومات من ذهن بعلمها إلى ذهن يجهلها، يتم فيه تشبع الشخصية التابعة بالشخصية المتبوعة إلى درجة الامتلاء، وذوبان عناصرها فيها حتى تستحيل شخصية أخرى تصدر عنها أفعاله وأقوالها كما يصدر العسل عن النحلة، وتسير في حياتها على هدى هذه الرسالة كأنها تهتدي بوحي غرائزها الفطرية دون تفكير ولا تردد ولا اختيار.
فإذا تحدثت الشخصية التابعة سمعت منها حديث المنوم مغناطيسياً تحت تأثير منومه، وتظهر كلماتها مطبوعة بطابع الرسالة التي تلقتها، ولو لم يكن الموضوع الذي تتحدث به من الموضوعات التي تعرضت لها الرسالة ببيان. ومن الأمثلة التي توضح لنا ذلك أحاديث حواريي المسيح برسالته من بعده إلى الناس، وما كان هؤلاء الحواريون إلا طائفة من صيادي السمك وأشباههم لا يزيدون في ثقافتهم على العوام، ولكنهم ثبتوا في الجدل الكلامي لأساطين كهنة اليهود وأحبارهم الذين كانوا فقهوا حق الفقه صفوة الثقافات الدينية والعملية والفلسفية التي كانت معروفة في عهدهم، وانتصروا عليهم حتى في تفسير الشريعة الموسوية التي هم كهنتها وأحبارها. وكانوا إذا خطبوا أو تحدثوا - وهو العوام - نطقوا بالبيان الساحر الذي يزلزل القلوب ويهز العقول فلا تملك حيال بلاغته العارمة ما يدفعها، فإما أن تؤمن بها وإما أن تنحرف عن طريق سيلها الغامر.
وكانوا إذا تنبهوا إلى أن ما يقولون هو فوق مستوى افقهم تعجبوا من أنفسهم ودهشوا كيف يأتون بمثله وهم العوام، وتأولوا ذلك بأنه من آثار تجلي الروح القدس عليهم وامتلائهم به. ونحن لا نملك إلا أن تعجب كما عجبوا وندهش كما دهشوا كيف يأتون بما أتوا به مما لا يحسن مثله فحول البلغاء الذين قضوا سنين عاكفين يتدربون على تجويد القول والتفنن فيه. هذا إلى ما يمتاز به كلام أولئك الحواريين من بساطة معجزة في التفكير والتعبير. ونحن أخيراً لا نملك إلا أن نسجل هذه الظاهرة ونصفها، فإذا حاولنا تعليلها (بعبقرية الإيمان) في