تلك السرائر التي (تشبعت وامتلأت وذابت عناصرها في فيض عبقرية المسيح) لم يكن هذا التعليل بأقوى من تعليلهم هذه الظاهرة بتجلي روح القدس عليهم وامتلاء نفوسهم به، والمسألة لا تعدو حد الوصف.
ومن هذه الأمثلة ما نقل عن بعض صحابة النبي الأقربين من أقوال وأعمال وسير، وفيهم التاجر الصغير والحداد والجزار وباري النبال والعبد المسخر المستضعف، فنحن نعجب كيف نهضوا بأعباء الفقه والحكم والنصيحة للخلفاء وغيرهم ورتق الفنون التي انفتحت عليهم من أقطارها، فشرعوا وحكموا ونصحوا وأصلحوا كأتم ما يستطيعه من قضوا أعمارهم في دراسة الشرائع وسياسة الممالك والمشورة على الملوك والرعية، والإحاطة بتواريخ الأمم والوسائل الناجعة التي عالج بها أبطال الساسة المشكلات أيام السلام والهزاهز. ولقد بلغوا في هذه الأمور حداً يندر أن يطاول حتى كثير من طائفة العبيد المسخرين المستضعفين فيهم قد كان لكل منهم مشاركة في هذه العظمة يعز أن تظفر بمثله بين أبطال التاريخ في أي مكان أو زمان خلال قرون.
ومن المعجب المعجز أن تظفر بكل هؤلاء وبخير منهم في فترة واحدة على يد رجل واحد. فكيف استطاع محمد في حقله الضيق في سنوات معدودات أن ينبت هذه المئات من أشجار البطولة التي تنوعت سيقانها وفروعها وأوراقها وأزهارها وثمارها كأوسع ما يكون من التنوع، وهي تقوم في تربة واحدة وتسقى بماء واحد. ولا يخفف من عجبنا شيئا أن هذا الرجل الذي تخرجوا به نبي، وأن هذا النبي محمد، ما لم نكن ممن يعشى أبصارهم تلألأ الكلمات فيقفون عند حدودها ولا ينفذون إلى العوالم الفساح المتراميات وراءها، ولو فعلنا ذلك لم نعرف الدرس الأول الذي تعلمنا إياه صحبة العباقرة، وهذا الدرس الأول الذي يمثله (أبجدية العبقرية) هو عدم الوقوف عند الكلمات التي تواضع عليها الناس ولو كانوا من الحكمة في أرفع مكان.
ومن أهم ما يلفت النظر فيهم قولاً وعملاً وسيرة ظاهرة (الاجتهاد) مع أنهم متأثرون أقوى الأثر وأعمقه بشخصية النبي ومن العجب أننا لا نجد تعليلاً لهذه الظاهرة إلا ما نستدركه بعد ملاحظتنا هذه الظاهرة، وهذا التعليل هو أنهم متأثرون أقوى الأثر وأعمقه بشخصية النبي، فتحت هذا التأثر القوي العميق يقولون ويعملون ويسيرون في حياتهم كأنهم (أنبياء