ومن هنا بدأ الخلاف يدب بين المنطق واللغة، ولهذا الخلاف مظاهر:
أولاً من حيث الموضوع.
المنطق يتناول المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بألفاظ المطلقة عليها؛ واللغة تتناول الألفاظ، وإن كان لا يسوغ لها الإخلال بالمعاني المعبر عنها. واللغوي أشبه بالصحافي يترقب الأخبار ويتوخاها، فاللغة عبد الفكر تخضع لحركاته وسكناته وصحوة ويقظته، وهي تحقق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ إلى اللفظ، والمعنى ثابت لا يزول. وقد يحول اللفظ إلى اللفظ والمعنى لا يحول. أما المعنى فإنه إذا حال زال، ولم يعد له حال.
ثانياً: من حيث الغاية:
لا شك في أن الحاجة إلى المنطق تلت الحاجة إلى اللغة، لسبق اللفظ على المعنى بالطبع، ولأن الطبع أسبق من أحكام العقل. ففي أوائل حياتنا نحن نتكلم وننطق كلاماً منطوقاً قاصراً على صاحبه، أما في انتقاله من شخص إلى آخر فهو في حاجة إلى أسس وقواعد يرسمها المنطق لذلك. وأية إشارة أو صرخة أو حركة من الطفل يعتبرها اللغوي لغة ذات معنى مفهوم، وذلك ما لا يعترف به المنطقي بحال، وإن كان الإفهام والتفاهم غاية كل من المنطقي واللغوي.
ثالثاً: من حيث المنهج:
اللغة ترتب اللفظ ترتيباً خاصاً يؤدي إلى مألوف القول والعادة؛ أما المنطق فإنه يرتب المعنى ترتيباً يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة. ترتيب اللغة هو النحو والصرف، وترتيب المنطق هو الاستدلال. اللغوي لا يهمه من لغات الناس بقدر ما يهمه من لغته هو. أما المنطقي فله لغة عالمية ذات أجرومية دولية، نحاة اللغات يختلفون ولكن المناطقة على وفاق وإن اختلفت أجناسهم ودياناتهم وميولهم الإنجليزي يقدم الفعل على الفاعل، والعربي يجيز الأمرين، والمنطق يفترض شيئاً واحداً فقط هو وجود فعل وفاعل يركبان بهيئة يتفق عليها النحاة لتؤدي معنى، والمنطق يفترض عقلاً واحداً سليماً مجرداً هو العقل الإنساني، أما اللغة فتخضع للظروف والأحوال. وعلى ذلك فالمنطق مطلق واللغة نسبية.