مؤقتاً إلى كريمة، ولكن هذا التوقيت لم يكن إلى نهاية. . .! فلم تعد تلك الفتاة الناضرة التي كانت، وانطفأ بريق عينيها، وذبل خداها، وعلت وجهها غبرة من الحزن كانت تواريه عن أبيها. . . وأخذت تعود إلى رأسها الصغير ذكريات بعيدة مشرقة، تبدو خلف ضباب البعد في فتنة الخيال - ذكريات عن أم أخرى رفيقة كانت دائماً تبتسم في وجهها، وكثيراً ما كانت تحتضنها إلى صدرها وتقبلها وتعنى بنظافتها وراحتها، فتصنع لها اللعب وتشاركها اللعب بها؛ وكانت إذا جاء المساء تروح تحدثها حديثاً عذباً، وتقص عليها حكايات لا تزال تذكر بعضها، فإذا جاء وقت النوم احتوتها بين ذراعيها، ثم لا تستيقظ في الصباح إلا على نغمات من صوتها النديّ الرقيق. أين ذهبت تلك الأم فلم تعد، ومن هذه الأخرى؟ لقد كانت أمها الأولى أرحب صدراً وأوسع عطفاً وأكثر حناناً.! وابتدأت الفتاة تتبرم بما تؤديه من عمل، وابتدأت زينب تشكوها إلى أبيها. وأول مرة سمعتها كريمة من بعيد تحدث أباها عنها ذهبت إلى غرفتها وجلست تبكي، فلم يسأل عنها أحد.
ويوماً عاد صلاح من المدرسة في الصباح، فقد طرده الضابط لقذارته، وانهالت عليه (أمه) توبخهوتشتمه، وتركته منزوياً في جانب من الردهة يبكي حتى عاد أبوه في الظهر. ورفعت إليه الشكوى من (ولده) وتجاهلت أشياء واختلقت أشياء. وغضب الوالد، وهم بالولد يخيفه برفع يده، ووقفت كريمة في الطريق:(أبي، ما هذا؟ إن أخي لم يفعل ذنباً، أمي هي التي تهمله!)
وسقطت يد الرجل بجانبه، لقد رأى كريمة في صورة أخرى، لكأنه لم يسمع صوتها منذ زمن طويل. هذا الصوت الذي تحدثه به لشد ما أثار في نفسه من ألم وأعاد إلى رأسه من ذكريات. ووازن بين صورتي ابنته أمس واليوم؛ صورتها أمس في طفولتها الجميلة وهي جالسة في حجره تعبث بشاربه وتربت بيدها على خده. لقد كانت مثل زهرة تفتحت في الربيع تتألق في حسن وتفوح بعطر - وصورتها اليوم! ماذا تلبس؟ إنها ثياب الخادم المطرودة. . . وحوّل وجهه إلى ناحية أخرى فأبصر ولده متجمعاً من خوف في زاوية المكان: صلاح. ووقف الولد يرتعد، وجذبه أبوه برفق، وطأطأ رأسه في ذلة، وانحدرت من عينيه دمعة: ولدي. وتهدج صوته فأمسك عن الكلام؛ وأحست زينب عاصفة توشك أن تنقضّ فانسحبت في هدوء.