صورت لك أخيلتك الطائشة أنك قد لبست ثوب الرجل الذي فيه، فاندفعت تأمر في كبرياء وجفوة، والفتاة تبسم في عبث ساخرة من نزواتك الطفلية ولكنها لم تمتنع عن رغبتك خشية أن تندلع من حماقتك نار حامية يلتهم أوارها سعادة تثر جاها في هذا الدار، فخضعت وهي تسر في نفسها أمراً. وجاءك الغداء - بعد ساعة - ينضم على أطايب الطعام: على البيض والسمن والزبدة والجبين والعسل و. . . مما يتحلب له الريق وتثور له شهوة البطن. . . وجلست إلى الطعام، بين أخويك، تريد أن تشبع النهم والكبرياء في وقت معاً.
ورأيت أباك يدلف إلى الدار - في هذه اللحظة - فقلت لأخويك، (انتظرا حتى يأتي أبي فينعم معنا بهذا الطعام الشهي، فهو - ولا شك - في حاجة إليه بعد هذا الضنى والنصب. أنه لا يلبث أن ينفي عنه وعثاء الطريق وعناء السفر) فأمسكا عن الطعام وأمسكت.
يا عجباً! هذه هي نوازع الصبية؛ صافية كالجوهر الخالص، نقية كالسلسبيل الطاهر، لطيفة كالظل الوارف ساعة الهاجرة، ندية كهبات نسيم الفجر الساحر، آه، لو عاش الإنسان عمره في سريرة الصبي وشعور الطفل، إذن لتوارت من الحياة شوائب تزعج النفس وتفزع القلب!
وخرج أبوك - بعد لحظات - من لدن زوجته يستحث الخطى نحوك وقد اكتسى وجهه بنبرات من الحزن والضيق لم تشهدها وأنت تهش للقياه. وأفزعك أن ترى على وجهه أثر الغضب فأمسكت عن الحديث. ولكنه أقبل في ثورة عارمة يأمر الخادم أن يرفع الطعام من بين يديك أنت وأخويك أحوج ما تكونون إليه. آه لقد وسوست الشيطانة، وأذهلتك المفاجأة فشرقت بريقك، وماتت الكلمات على شفتيك، ودارت الدنيا بك من شدة الصدمة فسقطت متهالكاً على كرسي بجوارك، وآذاك أن يبدو ضعفك بين يدي أخويك الصغيرين وأنت - كرأيك - رب المال وسيد الدار وصاحب السلطان، فتماسكت تماسكت لترى أباك والطعام يتواريان في طرفة عين، فنظرت إلى أخويك من عبرات حرى تتدفق على خديك تنطق بالأسى واللوعة واليأس جميعاً.
وبكى أخواك الصغيران فاحتضنتهما في عطف وحنان لتشعرهما بأنك أنت أمهما حين ماتت الأم، وأنك أنت أبوهما حين قسا الأب. واختلطت عبرة بعبرة، وخفق قلب لقلب، وتعانقت زفرة وزفرة، واجتمع الرأي على أمر، ثم اندفع الركب يسير.