الموقف الخالد للإسلام ونبيه العظيم توجيها جليلاً لرسالة الشعر، وتهذيباً نبيلاً للشعراء ليسموا بفنهم الرفيع إلى مجال الطهر والخير، ومجال الحق والعدل والحرية والنور، وكان نقداً عميقاً للشعر والشعراء والجاهليين، وإنكاراً لاتخاذ الشعر وسيلة للكسب وظهر أثر الإسلام والقرآن في تهذيب أسلوب الشعر وألفاظه، وفي البعد به عن الحوشية والغرابة وطبعه بطابع القوة والجلالة والروعة مع الحلاوة والبلاغة والسلاسة. كما ظهر أثر القرآن والحياة الجديدة في عقلية الشعراء وتفكيرهم ومعانيهم وخيالاتهم
٤ - وفي عصر دولة بني أمية انتشرت العصبيات، وكثرت الخلافات السياسية والدينية، وتغير نهج حياة العرب وتفكيرهم، فعادوا إلى مذهب الجاهليين في الشعر، اتخذوه أداة للدفاع عن الرأي والعقيدة، ولساناً لإذاعة محامدهم ومفاخرهم، وشجعوا الرواة على رواية الشعر الجاهلي، والشباب على درسه وتعلمه والتأدب بأدبه، ووضعت في هذا العصر أصول النحو العربي، فأخذ العلماء ينقدون الشعر الجاهلي نقدا يتصل بالأعراب، (كان أبى إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان عليهم، وكان عيسى يقول: أساء النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع. ويقول موضعه: ناقعا).
٥ - ومن أشهر رواة الشعر الجاهلي ونقاده في القرن الثاني الهجري. أبو عمر ابن علاء البصري م ١٥٤هـ، وحماد (الراوية الكوفي (٧٥ - ١٥٦هـ)، وخلف (الأحمر البصري م ١٨٠هـ، ويونس البصري م ١٨٢هـ، والمفضل الضبي م ١٨٩هـ وهو أقدم من جميع المختار من شعر العرب في كتاب (المفضليات) وأول من فسر الشعر بيتاً بيتاً. ويقال أنه أول من جمع أشعار الجاهليين وإن كان الراجح إن حماد اسبقه في هذا الميدان. ومنهم ابن الكلى م ٢٠٤، وأبو زبد الأنصاري صاحب كتاب الجمهرة م ٢١٥هـ، وأبو عبيدا البصري م ٢٠٩هـ صاحب (النقائض) و (مجاز القرآن)، والأصمعي البصري م ٢١٦ هـ.
كان أبو عمر بن العلاء أشد الناس إكباراً للجاهليين وتعظيماً لشأنهم، جلس إليه الأصمعي عشر سنين فما سمعه يحتج ببيت إسلامي. ويروي عنه: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً. وكان لا يعد الشعر إلا للجاهلين، وكان كما يقول ابن سلام في طبقات الشعراء: أشد الناس تسليماً لهم وكان المأمون على رغم ثقافته الواسعة يتعصب