شيء مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود! وشبيه بتلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفضل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.
نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم (أصوله وقواعده) قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، ويتركز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد (نظاماً)، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد قمنا بناء الفن هذا التصميم الذي ندعو إليه ينظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى. هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي). لابد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!
هذه يا صديقي هي القيود المفروضة التي تتيح للفن كل معاني الحياة. . أما تلك القيود