الأخرى التي لا نرتضيها للفن لأنها تحد من حريته الطبيعية وحقه المشروع، فهي تلك الصيحات التي تنطلق من بعض الأفواه منادية بربط الفن إلى عجلة المجتمع أو مزجه، بأصول علم الأخلاق. وأصحاب المذهب الأول مغرقون في الخطأ أو مسرفون في الوهم، لأنهم يتخيلون أن المجتمع هو الحياة حين يتحدثون عن الصلة بين الفن والحياة! إن مصدر الخطأ هنا هو أن الحياة في مدلولها اللفظي وواقعها المادي، أوسع مدى وأشمل معنى من المجتمع الذي يريدون للفن ألا ينشر جناحيه بعيداً عن حماه. . إن المجتمع جزء من الحياة وليس هو كل الحياة، ونضرب لذلك مثلاً قصيدة من الشعر يصور بها الشاعر مجلي من مجالي الطبيعة أو نزعة (فردية) من نزعات النفس أو دفقه (ذاتية) من دفقات الشعور. أليس كل جانب من هذه الجوانب التي تخرج عن دائرة المجتمع، تعبيراً عن الحياة في وضع من أوضاعها الخاصة التي تفيض بالنبض وتزخر بالحقوق؟ إننا نستطيع أن نلتمس الحياة في شعر يتحدث عن الصحراء، وفي قصة تدور حول معالم الذات، وفي أدب معروف هو أدب الاعترافات. . . وكل هذه الألوان الفنية لا تدخل في نطاق المجتمع الكبير ومع ذلك فهي تؤدي رسالة النقل عن الحياة كأصدق ما يكون الأداء!!
هذا عن أصحاب المذهب الأول، أما عن أصحاب المذهب الأخلاقي في الفن فقد رددنا عليهم في مناسبة سابقة بكلمات للفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشة، وهي كلمات نؤمن بها كل الإيمان لأن فيها الحجة المقنعة والمنطق السليم. . وخلاصة رأي الفيلسوف الإيطالي في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، هو أن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً هابطة! فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولن يكون فناً أبداً!! ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فهي ليست قوام الإنسان الفنان، ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي.
بقي أن نقول للأستاذ الونداوي في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه، من الناحية أنها تفرض على الشاعر لوناً من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسي أن تلك القيود لازمه من لوازم الشعر