للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مما كنت فيه، وأخذ القبر امرأتي وشهواتي معا، فسأعيش ما بقي لي فيما بقي مني. وزوال شئ في النفس هو وجود شيء آخر. ولقد انتهيت بالمرأة ومعانيها وأيامها إلى القبر، فالبدء الآن من القبر ومعانيه وأيامه.

وتواثقا على أن يسيرا معا في (باطن) الوجود. . .! وأن يعيشا في عمر هو ساعة معدودة اللحظات، وحياة هي فكرة مرسومة مصورة. قال أبو خالد: ورأيت أن أبيت عنده وفاء بحق خدمته، ودفعا للوحشة أن تعاوده فتدخل على نفسه بأفكارها ووساوسها. وكان قد غمرنا تعب يومنا، وأعيا أبو ربيعة وخذلته القوة؛ فلما صلينا العشاء قلت: يا أبا ربيعة، أحب لك أن تنعس فتريح نفسك ليذهب ما بك، فإذا استجممت أيقظتك فقمنا سائر الليل.

فما هو إلا أن اضطجع حتى غلبه النعاس. وجلست أفكر في حاله وما كان عليه وما اجتهدت له من الرأي؛ وقلت في نفسي: لعلني أغريته بما لا قبل له به، وأشرت عليه بغير ما كان يحسن بمثله فأكون قد غششته. وخامرني الشك في حالي أنا أيضا، وجعلت أقابل بين الرجل متزوجا عابدا، وبين الرجل عابدا لم يتزوج؛ وأنظر في ارتياض أجدهما بنفسه وأهله وعياله، وارتياض الآخر بنفسه وحدها؛ وأخذت أذهب وأجئ من فكر إلى فكر، وقد هدأ كل شئ حولي كأن المكان قد نام، فلم ألبث حتى أخذتني عيني فنمت واستثقلت، كأنما شددت شداً بحبال من النوم لم يجئ من يقطعها.

ورأيت في نومي كأنها القيامة وقد بعث الناس وضاق بهم المحشر، وأنا في جملة الخلائق، وكأننا من الضغطة حب مبثوث بين حجري الرحى. هذا والموقف يغلي بنا غليان القدر بما فيها، وقد أشتد الكرب وجهدنا العطش، حتى ما منا ذو كبد إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده، فما هو العطش بل هو السعار واللهب يحتدم بهما الجوف ويتأجج.

فنحن كذلك إذا ولدان يتخللون الجمع الحاشد، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يملئون هذه من هذه بسلسال برود عذب، رؤيته عطش مع العطش، حتى ليلتوي من رآه من الأم، ويتلعلع كأنما كوى به على أحشائه.

وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما وهم كثرة من الناس، وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم ينضحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من روح الجنة ومائها ونسيمها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>