هذه هي مادة الإذاعة وطبيعتها، أما الشكل أو الإطار الفني الذي تقدم من خلاله هذه المادة فالواجب يقضي بضرورة اشتراكه معها في تلك الطبيعة الإذاعية ورغم ما يذهب إليه البعض من أن المادة تحتم الشكل وتصنعه، فإني أرى يجب ألا يترك الشكل خاضعا لها، فكثيرا ما يرتفع جانب الشكل بجانب المادة. وإذا اجتمعت المادة مع الشكل ثم الطرف الأول من عملية التعبير الإذاعية، ولم يبق إلا أن نعرف كيف تتم عملية التعبير كلها، أو تعرف على الأقل الوسيلة إلى إيصالها إلى الطرف الثاني وهو المستمع وهذا أمر لا يتم عن طريق الصوت والصوت وحده - لا الكلمات أو النغم. أقول هذا لمن أحالوا فن الإذاعة إلى حشد متزاحم من الكلمات التي تصدع الرؤوس، والنغمات التي تملأ فراغا يشعر به مقدم البرنامج - ويشكو الأستاذ واشد من ذلك الفراغ في تقريره مر الشكوى.
إن الإذاعة فن متفرد بذاته، وهذا التفرد يتمثل في الوسيلة التي يستخدمها، ولا تقصد بالوسيلة الصوت المجرد القائم على ذبذبات لا تحقق التعبير الذي تهدف إليه، بل أننا ما دمنا نريد إفراغ نفوسنا مما بها ن فلا بد أن يتخذ هذا الصوت شكلا فنيا مؤثرا يخضع للتقاليد الفنية السائدة في كل الفنون. وما دامت هذه الفنون تخضع وسائلها لتقاليد الفن فعلى الإذاعة أن تجاريها عند استخدامها وسيلتها، فلا تقدم الصوت الإنساني كما هو، عاريا من كل تأثير، بل لا بد أن يدخل الفن عليه، ويتناوله بالمعالجة، ويخضعه لطبيعة الإذاعة الدائرة حول الإفضاء بغية تحقيق التأثير الصوتي.
وقد يثور على هذا القول أصحاب المدرسة القائلة بضرورة أن يكون الفن صورة منسوخة من الحياة. والرد عليهم بسيط فالإذاعة ككل فن تستطيع أن تجمع في وقت واحد بين محاكاة الحياة وتظل خاضعة في نفس الوقت لمطالبات الفن ولن يحدث ما يطلبه أصحاب هذه المدرسة إلا حينما ينزل الميكرفون إلى الشارع ويدخل بيتي وبيتك، ويكشف عن حياتي وحياتك، ويقدم مأساة آسرتي وأسرتك - وهذا أمر يصعب تحقيقه الآن. وحتى يتم فإنا نطالب بان تعتصر الوسيلة الإذاعية حتى آخر قطرة فيها وتقدم الصوت في أدق صوره الفنية. وطرقنا إلى ذلك واضح بسيط يتمثل في الرجوع به إلى حقيقته الأولى، في الصورة التي ظهر عليها منذ بدء الإنسانية، منذ قرع الإنسان أول طبول الغابة حتى