تطفلت الحياة نفسها بصرف الشعراء المعاصرين عن هذا النهج الفني في القصيدة، فليس منهم والحمد لله من يبدأ قصيدته بذكر الإبل والقفار والديار والآثار بل أن ذلك لو فعله أحد الآن لرمي بالجنون ولكن معنى ذلك ألا يصف الشاعر المعاصر معاهد أهله وأحبابه في شعره أبدا، أو ألا يبدأ قصيدة من قصائده بذكر ها، ولكن نقول أن التزم بدء قصائده بذكر معاهد حياته وأحبابه ولم يتخل عن هذا المنهج، لم نحاسبه على ذلك، إلا إذا قيدها من حريته الفنية أو حبس مواهبه وملكاته الأدبية، فإنه يجب بحق ألا يقيد الشاعر نفسه بأي قيد لا تلزمه به لنفسه ومواهبه وملكاته الفنية وحدها، وإلا كان مقلدا لا نصيت له من الشعور بالحياة والإحساس بها والتمتع النفسي العميق بمشاهدها وصور وألوانها.
وهناك في الشعر الجاهلي ظاهرة أخرى نشأت عن الطابع البدوي الموروث وهي كثيرة الغريب والوحشي، ولا شك أن ذلك مذهب العرب القدامى وحدهم الأثر البيئة البدوية الجاهلية الخشنة في عقولهم ونفوسهم. وما أروع ما يقول صفي الدين الحلي الشاعر المتوفى في عام ٧٥٠هـ:
وليس هناك أحد يدعو إلى استعمال هذه الألفاظ، أو يرف قلبه حين سماعها، فهي ألفاظ تاريخية يجب أن نفهمها فحسب.
بقيت بعد ذلك الصور البيان الأدبي نفسه. أصوغ أسلوب على الصور القديمة التي يمثلها الشعر الجاهلي، أم نستمد صوره من ألوان حياتنا وبيئتنا وثقافتنا وحدها. ولنضرب مثالا واحدا لذلك: لاشك أن الجمل كان عماد الحياة في العصر الجاهلي، وفي أساليب البيان صور كثيرة أستمدن منه، فقد قالت العرب ألقى الحبل على الغارب، واقتاد غارب المجد وسنانه، ووطئه بمنسمه وضرسه بأنيابه، والقي عليه جرأنه، وناء وأناخ بزمام الأمر.
وقد حاول النقاد والبلاغيين في العصور القديمة أن يدعوا إلى توليد صور البيان وتنميتها