والاستقلال؟ بل كيف يكون الفرد الواحد متماسك الوعي، ثابت الاتزان، متكامل الوجدان؟
شق ذلك على المستعمرين الذريين، فالتمسوا السبيل إلى تحطيم الفرد بتحطيم الأعصاب، فأصبح موزع الشعور، صريع الهوى، شتيت الفكر، غريب القلب والعقل واليد واللسان، ودفعهم إخلاصهم (لهذه البشارة) إلى تفتيت كل وحدة، وتحطيم كل قوة، وتفريق كل متماسك، وتصديع كل ما هو (كل)، وتفرعوا بهذه البدعة الجديدة من الحروب التي لا تعرف الزحف والأدبار، ولا الكر والفر، حرب لا يحمى وطيسها مبادئ، ولا يعقد ألويتها زعامة، ولا يحرص عليها إيمان، تلك هي (الحرب الباردة) التي توحي بها السياسة العقربية التي شعارها (تلدغ العقرب وتصئ).
ومظاهر التحطيم واضحة في كل مكان: فالحكام في البد الواحد معتدلون ومتطرفون، وفي البرلمان الواحد أصحاب يمين وأصحاب يسار، وفي الدولة الواحدة أُصلاء ودخلاء. فهذه دول مغلوبة على أمرها، توزع الاستعمار نفوذه فيها، ويزكي بعضه بعضا، ويدفع معور عن معور كما يقول الشاعر. وهذه فلسطين ظلت كتلة واحدة حتى دس الاستعمار أفاعيه، فشطرها إلى عرب ويهود، ثم إلى يهود من الشرق وآخرين من الغرب؛ وأخيراً إلى يهود عصابة شتيرن ويهود عصابة فيومي.
وهذا وادي النيل يعملون على فصل شماله عن جنوبه، وأندنسيا يقسمونها بين الهولنديين والوطنيين، واليونان يشطرونها بين الثوار والآمنين. واجتاحت الصين شيوعية حمراء تقاومها عناصر صفراء، وكوريا يفصلون شمالها عن جنوبها ويحرضون هؤلاء بهؤلاء.
وبينما تنتظم الكتل السياسية المزعومة تباعا في هذا العصر الذري مثل كتلة (الينلكسي) وكتلة البحر البلطي، والكتلة الغربية الديمقراطية في مواجهة الكتلة الشرقية الشيوعية، بينما يكون ذلك، نرى الخطر يحدق بالدول الصغرى التي ليس لها في هذا النزاع الدولي القائم، ناقة ولا جمل. ولعلها لا تنخدع بنخوة التكتل والتجمع، ونشوة التحالف المقنع. فليحذر دعاة الكتلة الأفريقية.
اللهم إن كل جامعة تقام بنيانها على غير أساس لا تقوم إلا على شفير منهار، إذ الأساس الذي يجب أن يدعم حقا هو الضمير النقي السليم الذي يستحضر مركباته من خوف الله، وحب الناس، وعمل الخير، ورعاية الحق، ودفع الشر، وهدم الباطل. بهذا لا تكون