وفي الدرجة الثانية قصيدته الرائعة التي يناجي فيها الريح الغربي وهي روح الكون التي يستطرد في مناجاتها حتى يدمج نفسه بها، وندع للقارئ الحكم على متانتها وبراعة تخيلاتها ومعانيها المبتكرة بعد أن ينعم النظر فيها!
أيتها الريح الغربية الهائجة، أنت زفير الخريف العظيم، أنت الذي تنساق أمامك أوراق الشجر دون أن تراك قد تفر بين يديك كما تفر الأشباح من ساحر جبار. ثم تفر تلك الأوراق الصفراء والسوداء والشاحبة والحمراء بجماهيرها الغفيرة.
أنت أيها الريح تشيع البذور التي تتطاير كأنها مجنحة إلى مرقدها الشتوي المظلم حيث تظل راقدة كما ترقد الجثة في قبرها وتظل كذلك حتى تهب شقيقتك الزرقاء وهي ريح الربيع التي تنفخ في البوق لتوقظ الأرض النائمة وتسوق الأزهار اليانعة كما يسوق الراعي قطعانه من الحظيرة إلى الفضاء فتملأ الربى والوهاد.
فأيتها الريح الهائجة المتحركة في كل مكان، أنت تدمرين الحياة وتصونينها في الوقت ذاته فأسمعي:
تتساقط على غديرك الغيوم المنحلة كما تتساقط أوراق الشجر فكأنك تهزينها من جذوع السماء وأغصان المحيط. وعلى سطح أمواجك الزرقاء الهوائية تتدلى خصل من العواصف المضطربة.
أنت تنشدين ترتيل جناز السنة المنتهية التي ستتخذ من قبة هذه الليلة السادرة الفسيحة مزاراً ومقاماً. وسينفجر من بخار أنفاسك مطر وبرق ورعد.
أنت التي أيقظت البحر الأبيض المتوسط من نومه بعد أن كان مستغرقاً في أحلام الصيف العذبة وهو نائم على أنغام أنهاره البلورية، فتقطعين عليه أحلامه وتشوهين تصوراته. وعندما تمرين بالاقيانوس الأطلنطي تشقين فيه أخاديد عميقة بعد ما تثيرينه من أمواج عاتية شامخة ويشعر بهزاتك كل كائن حتى ذرات النبات الراسبة في قاع المحيط، فتشيب فزعاً وتهتز اضطراباً.
ليتني أيها الريح ورقة ميتة تحملينها.
وليتني سحابة سريعة أطير معك، وليتني موجة ألهث من شدتك وأشاطرك قوة اندفاعك ولو