ويركبون البحر، وأخذوا منطقة واسعة حول الميناء وحولوها إلى ثكنات تعج بالجنود والعتاد.
وقبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الخامس عشر من شهر أيار عام ١٩٤٨ بأسبوعين أو ما يقرب من ذلك - راح الإنجليز يسلمون لليهود المراكز الستراتيجية المهمة قبل انسحابهم منها.
ومدينة حيفا - عروس البحر الأبيض المتوسط التجارية - كانت غاصة بالعرب وتجارتهم، وكان يسكنها مالا يقل عن ثمانين ألفا منهم. وكانت البضائع المكدسة على أرصفة الميناء للتجار العرب لا تقل أثمانها عن عشرين مليونا من الجنيهات، وكان العرب يملكون في تلك المدينة من نقود ومتاع ومجوهرات بما نقدر قيمته بثلاثمائة مليون من الجنيهات.
وأقبل المساء - ذات ليلة - وأقفل العرب حوانيتهم - وقد كان كاتب هذه السطور شاهد عيان في تلك الأمسية - وعادوا إلى منازلهم وناموا آمنين، لأن الجيش البريطاني بكل قوته يجاورهم في الميناء.
وفي الساعة الرابعة صباحاً أو ما يقرب من ذلك، سلم الإنجليز لليهود المواضع الحربية المهمة التي كانوا يحتلونها في المدينة وعلى جبل الكرمل بكل ما فيها من عتاد، وانسحبوا سراً في هدوء تام إلى منطقة الميناء وجلسوا يشاهدون التمثيلية.
وأوعزوا إلى اليهود، فراحت عشرات الألوف منهم، وقد حملت الأسلحة الفتاكة والأوتوماتيكية، تشد أزرها المدفعية الثقيلة التي وضعت لرد الغزاة عن الميناء - راحت المدفعية الثقيلة واليهود يشنون هجوماً مركزاً وحشياً على العرب النائمين في بيوتهم وما هي إلا لحظات حتى كانت الأحياء العربية بأسرها أتوناً يحترق. وأفاق من الناس مذعورين وراحوا يتراكضون إلى الشوارع عراة كما كانوا في فراشهم، وأخذ اليهود يفتحون لهم الطريق إلى الميناء بالرصاص ليموتوا غرقا - كل ذلك والجيش البريطاني يشاهد المأساة - مأساة ثمانين ألفاً من النساء والأطفال غير المسلحين يذبحون ذبح الماشية، فكان منظر نيرون وهو يشاهد روما بعد أن أمر بحرقها، أكثر إنسانية من منظرهم وتسامع العرب في المدن والقرى المجاورة بمأساة إخوانهم فهرعوا من كل فج عميق فوجدوا الطرق