ونحن مضطرون إلى الإجابة نيابة عن المترجم، وإلى الإجابة بالنفي عن هذه الأسئلة كلها، لأن هذه المسرحية - من بين مسرحيات سارتر - قائمة على أسطورة إغريقية قديمة، تعالج واقعاً خاصاً بعيداً عن واقعنا، وكأن المجتمع قد انتهى من مشاكله، واطمأن إلى حلها، ولم يبق إلا أن يعيش في عالم الأساطير. وهنا يتضح لنا هدف دعاة الوجودية، فهم جماعة من محبي الهرب، يهربون من المجتمع إلى ذواتهم ليحققوا وجودهم - ولو على حساب المجتمع. ويهربون من واقعهم إلى واقع قديم غريب عليهم، دون اعتراف بالزمن والتاريخ. ويهربون من واقع الحياة فيعيشون واقعاً مستمداً من فلسفتهم دون تفرقة بين عالم الفلسفة الفكري وعالم الحياة.
فإذا جاء الدكتور القصاص وترجم لنا مسرحية هذه صفة أصحابها، كان واجبه أن يذكر لنا هدفه من الترجمة، وأي نوع من القراء قصد بها، لا أن يعتذر في نهاية مقدمته ويقول (قد يدهش القارئ من أننا لم نقل شيئاً عن مسرحية (الذباب) نفسها) ونحن نؤكد له أن القراء لم يدهشوا لسكوته عن الكلام عن مسرحية الذباب بل دهشوا لخروجه عن المذهب الذي ألتزمه، فهم يعرفون حرص الوجوديين على إشاعة مذهبهم وتوضيح جوانبه، والتزامهم تحويل الجماهير إلى معسكرهم بتقديم أعمالهم ومعها تفسير يذهب بكل إبهام، حتى يحتضنها كل قارئ، ويعرف كيف يجيد الدفاع عنها. ومما يؤسف له أنه قد سبق ترجمة هذه المسرحية إلى العربية مسرحية وجودية أخرى ترجمها الأستاذ رميسيس يونان وكان أكثر حرصا من مترجم (الذباب) حين قدم لها بمقدمة عن المسرحية التي ترجمها، وأنهاها بكلمة عن المذهب الوجودي. وهكذا نستطيع أن نقول أن حقيقة الالتزام - الذي يتمشدق به الوجوديون - بعيدة عن ترجمة مسرحية الذباب الوجودية.
وما دام الالتزام هو الخرافة التي يتكئ عليها الوجوديون - دون تحقيق لها - فان كل عمل من أعمالهم يخلو من الالتزام، منقوض من أساسه. ومن هنا يصح لنا أن نهمس في أذن الدكتور القصاص أنه لم يعد في تقديمه لمسرحية (الذباب) دور المترجم الناقل، وفشل في لعب دور الرائد الذي سبقه غيره في القيام به، وأصبح هو لا يمثل بترجمته إلا المدرسة القديمة. ولو قرأنا رأيا كتبه الأستاذ علي أدهم عام ١٩٢٩ في مقدمة ترجمته لمحاورات رينان لأدركنا قد مدرسة القصاص في الترجمة حتى على هذا لتاريخ قال الأستاذ أدهم: