حصونها المنيعة، ويحتل إمارة بعد إمارة إلى أن أذعنت له جميع الإمارات والمقاطعات المستقلة، وأدت له الطاعة؛ فخيل إليه أن الأمن قد استتب، فصاد يقلل من عدد الحاميات والجيوش، ولكن سرعان ما أظهرت الحوادث غلطه في حسن ظنه في الأهالي. إذا لم يمض على معاهدة داغستان بضع سنوات حتى هب في أوائل سنة ١٢٤٠هـ أحد أبطال الجبل الغازي محمد الكمراوي الأواري في قرية (كمرا) في رأس من رؤوس الجبل، وثار على الحكومة الروسية، وعلى الأمراء المحليين الذين استسلموا للروسيين، وطالب أن تكون المعاملات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية لا للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام، وألف رسالة في وجب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع وسماها (إقامة البرهان على ارتداد عرفاء داغستان) وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية والشرعية. وهو الذي يلقيه الروسيون (بقاضي ملا)، ثم أخذ يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الدين والوطن ويوحد كلمتهم، فاجتمع لديه في وقت قريب جمع غفير من سكان الجبل، فبدأ في أوائل سنة ١٢٤٢هـ يزحف بهم إلى القلاع المنعزلة ويحتلها، ويقتل حاميتها، ثم تحول إلى عاصمة البلاد (درنبد) وشرع في حصارها، واستنفر سكان (طبسران)، وأمة (الججن)، فنهضوا كلهم لنجدته وظلوا يحاربون الجيوش الروسية المنظمة حتى استشهد الإمام الغازي محمد الكمراوي في معمعة القتال بقرية (كمرا) في ثامن جمادى الأخر سنة ١٢٤٨هـ (٢٩ تشرين أول سنة ١٨٣٢م) بعد حصار طويل. على أن استشهاده لم يضع حداً للثورة، ولا أوهنت عزيمة المقاتلين، فخلفه على قيادة الثورة، ورفع علم الجهاد من بعده الغازي الشهيد حمزة بك الذي قام بأهباء الثورة ونظم حركتها، واستمر يقاتل ويجاهد حتى استشهد بعد ذلك في أواخر سنة ١٢٥٠هـ يقرب مدينة (خنزاخ) فخلفهما في القيادة إمام آخر أشد منهما مراساً، وأبعد نظراً وأكبر هيبة في نظر الجماهير من المجاهدين والأعداء على السواء، وأقوى على احتمال ويلات الحرب الجبلية وهو الإمام الشيخ (شامل) الذي طبقت شهرته الخافقين لما أبداه من البطولة، وحسن الإدارة، وتنظيم العلم، ثم بوقوفه أمام عدو عظيم جبار مدجج بالأسلحة الحديثة تلك المدة الطويلة من سنة ١٢٥٠هـ إلى أوائل سنة ١٢٧٦هـ أذاق خلالها جيوش الروس الأمرين وحملهم من الخسائر في المال والرجال ما يصعب تقديره.