للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

آخر. فإذا ما خلت أمكنتهم من المجتمع بعد أجل طويل أو قصير، فهل يخلف من بعدهم خاف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟ ليس أمام الراصد الأدبي من الظواهر الواعدة ما يحمله على أن يجيب عن هذا السؤال بنعم. كل شيء يبعث على التشاؤم: منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد، كما كان المنهج السابق نظرياً يكاد يخلو من التطبيق. وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان بأية وسيلة؛ فالمطولات تختصر، والمختصرات تختزل، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة. وزهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد بالنشء عن تعيق الأصول وتقصى الفروع، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة، أو من شهادة إلى شهادة. فإذا ما تخرجوا عادوا كما بدأهم الله أميين لا يقرئون إذا قرءوا إلا السهل، ولا يطلبون هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة، حتى نشأ من إفراطهم في هذا الطلب إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ الذي لا ينفع، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع. ذلكم إلى طغيان الأدب الأوربي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول الناشئين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة، ففتنهم عن أدبهم، وصرفهم عن تاريخهم، وزين في قلوبهم أن الآداب الغربية من لوازم المدنية الحديثة، فكما تركنا في الأكل اليد إلى الشوكة والسكين، وفي اللباس الجبة والقفطان إلى الجاكتة والبنطلون، ينبغي أن نترك في الكلام اللغة العربية وأدبها إلى اللغة الأوربية وأدبها ليقال إننا متمدنون تقدميون نحفظ، هوجو ولا نحفظ المتنبي، وندرس فلتير ولا ندرس الجاحظ، ونقرأ لامرتين ولا نقرأ البديع! ومن هنا نشأت هذه التبعية المعيبة التي فرضت على أدبنا لأدب الغرب؛ فأساليب الشباب اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب، ومذاهب الأدب اليوم هي مذاهب الأدب في الغرب، حتى الرمزية بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان والمغمغم، يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح! وحتى الوجودية وليدة الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته عن سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل، ولا يتحداها وهو مؤمن.

ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم: الأدب للنفس والعلم للناس. الأدب مواطن والعلم لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>