وطن له. الأدب روح في الجسم ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلاً بنفسه، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزاً بأفراده الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد، والعلم شيء غير أولئك كله. فإذا جاز طبعا أن نأخذ عن غيرنا ما يكمل نقصنا في العلم، فلا يجوز قطعاً أن نرجع إلى هذا الغير فيما يمثل نفسنا من الأدب.
إن من أشد البلايا على الأدب الحاضر بليتين: العامية في اللغة والعلمية في الأسلوب. أما العامية في اللغة فلو كان الغرض منها إمداد الفصحى بما تزخر به لغة العامة من مصطلحات الحضارة وألفاظ الحياة العامة لقلنا نعم ونعام عين، ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة هي أن يكتب الكاتب كما يشاء، لا يتقيد بقاعدة من نحو، ولا قياس من صرف، ولا نظام من بلاغة. ولم يعرف قبل اليوم في تاريخ الآداب القديمة والحديثة من يعد في لغته كاتباً أو شاعراً وهو لا يعرف من وقواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه. وإذا كنتم تقرءون الصحف والكتب ولا تقعون على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش، فالفضل لأولئك الجنود المجهولين الذين يرابطون ليل نهار في دور النشر ويسمونهم المصححين، فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم، وعلى المعجم فيعرب، وعلى الركيك فيقوى.
وللعامية أنصار من بعض الكبراء الذين تعملوا في قصورهم على المربيات وهؤلاء لهم نفوذ معوق، ومن أشباه المعلمين الذين يتولون تعليم العربية في مدراس الأجانب وهؤلاء لهم توجيه ضار. حدثتني معلمة فاضلة أن أحد الأمراء رغب إليها في أن تنظر في تعليم ولديه، وفي المنهج الذي يدرسان عليه، ثم تكتب له تقريرا بما ترى. فكان مما لاحظته المعلمة أن الولدين يتكلمان العربية باللهجة التركية ولا يعرفان من قواعدها الضرورية شيئاً. فلما كلمته في ذلك أبتسم وقال لها ما نصه:(لا، مش عاوز كلام أزهر ولا كلام أولاد بلد). وحدثني معلم فاضل عين مشرفاً على امتحان النقل في مدرسة أجنبية، فلما أخذ يدقق في أجوبة التلاميذ قال له المفتش وهو رجل عربي من رجال الدين المسيحي:(حسبك يا أستاذ! إن تلاميذنا يتعلمون العربية ليكلموا بها الخدم)!
وأما العلمية في الأسلوب فلو كان الغرض منها اقتباس الروح العلمي في تحديد الفكرة وتصحيح القياس وتدقيق العبارة ونبذ الفضول وتوخي الفائدة لقلنا نعم ونعام عين؛ ولكنهم