يقصدون بالعلمية بخس القيمة الجمالية للأسلوب، وخفض المستوى الرفيع للبلاغة فيكون الكلام جارياً على نهج العلماء في تأدية المعنى المراد في اللفظ السهل، أو على سنن التجار في ضغط المعنى المحدد في اللفظ المختزل، ولا عليهم بعد ذلك من الروح الذي يبعث الحياة في المعاني فتؤثر، ولا من الفن الذي يلقي الألوان على الصور فتمتع، ولا من الشعور الذي يشيع الهمس في الجمل فتوحي
إن الأسلوب العلمي أسلوب من أساليب التعبير لا هو كلها ولا هو خيرها؛ وإنما هو أسلوب تقتضيه حال كما تقتضي غيره أحوال؛ فالسعي لتغليبه على غيره من الأساليب مخالفة للطبيعة ومجافاة للطباع. والمعروف في تاريخ الآداب أن المذاهب الأدبية والأساليب الفنية هي التي تتنافس في الشيوع وتتفارس على البقاء؛ أما الأسلوب العلمي فله مجال آخر ورجال أخر: مجاله العلوم ورجاله العلماء. والعلوم والعلماء يتخذون من اللغة أداة ضرورية للفهم والإفهام، لا وسيلة كمالية للجمال والالهام؛ فأساليبهم في فن الكلام أشبه بالصور الجغرافية والخطوط البيانية في فن الرسم: بقصد بها البيان لا الزخرف، ويراد منها الحق لا الجمال. فإذا صح أن نقول للرسامين اقتلوا في أنفسكم ملكة التصوير الجميل لتصبح رسومكم كلها جغرافية أو هندسية، صح بالقياس أن نقول للكتاب اقتلوا في أنفسكم ملكة التعبير الجميل لتصبح أساليبكم كلها علمية أو فلسفية.
سيداتي، سادتي. هذه على الإجمال الخطوط البارزة في صورة الأدب العربي الحاضر، منها خطوط بيض تشرق عليها أشعة من أقلام الصفوة الباقية من رجال المدرسة القديمة والتابعين لهم بإحسان من الشباب المعتدل؛ ومنها خطوط سود تخفق عليها ظلال من المستقبل الغامض يساعد على مدها تساهل المدرسة الحديثة والتابعين لها من الشباب المتطرف. فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية، لأن أساليبها غالبة على السمع، وقواعدها جارية مع الطبع، فلا يحتاج تحصيلها إلى درس، ولا النبوغ فيها إلى ملكة. وتغلب الأساليب العامية معناه فصل الأدب عن الدين، وقطع الحاضر عن الماضي، وتوهين الصلات بين العرب. وفي اعتقادي أن أمر العربية وأدبها لا يصلح إلا بما صلح به أوله: فقه اللغة جد الفقه، وفهم قواعدها أشد الفهم، وحفظ آدابها كل الحفظ. وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم، والعلم والخبرة في وضع المنهج، وتوفير الزمن