أخرى، فشبههم بهؤلاء الذي كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصاباً مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق فيقول:(يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون).
ويتناول المجرمين، فيصور ما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزي، ويرسم وجوههم وقد علتها الكآبة:(كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). أما طعامهم فمن شجرة الزقوم يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعائهم فكأنما طعموا نحاساً ذائباً أو زيتاً ملتهباً، وإذا ما أشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كهذا النحاس والزيت تشوي وجوهه. قال تعالى:(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) وقال سبحانه: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) ألا ترى التشبيه يثير في النفس خوفاً وانزعاجا؟
ويصور آكل الربا يوم القيامة صورة منفرة منه، مزرية به، فهل رأيت ذلك الذي أصابه مس من الشيطان فه لا ينهض واقفاً حتى يسقط، ولا يقوم إلا ليقع، ذلك مثل آكل الربا (الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا).
ولعب التشبيه دوراً في تصوير يوم القيامة، وما فيه من الجنة النار، ففي ذلك الحين، تفقد الجبال تماسكها، وتكون (كالعهن المنفوش) وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجو ذا لون أحمر كالورد:(فإذا انشقت السماء، فكانت وردة كالدهان)، وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التي نشاهدها في حياتنا، وحسبك أن تعلم أن شررها ليس كهذا الشرر الذي يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، وهنا يسعف التشبيه، فيمد الخيال بالصورة، حين يجعل لك هذا الشرر كأنه أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط، (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتي التشبيه ممداً في الخيال، كي يسبح ما يشاء أن يسبح فيقول:(وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
وهكذا ترى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضراً، وتقريب البعيد النائي