هي هذه القدرة الخارقة؟ هي القدرة على الغوص في السريرة الإنسانية، ففي بضع صفحات ينتقل القارئ من الشاطئ إلى أعمق الأغوار الإنسانية فإذا هو غارق معه في بحر لجي لا يحف فيه بالأرض والسماء، ولا يسأل أهو في ربيع أو شتاء، وفي صباح أو مساء، لأن (معمعان) هذه النفوس التي يغوص فيها يشغله عن الدنيا وما فيها ويبلغ من طغيانه على خيال القارئ أن يتوهم أنه عائش في قلب الرواية، فهي عنده الدنيا الحقيقية والدنيا التي تحيط بها هي الخيال)!
هذه كلمات تصدق على فن دستويفسكي كل الصدق وتنطبق عليه كل الانطباق، اللهم إلا في موضع واحد تختلف بشأنه مع الأستاذ العقاد، وهو قوله بأن دستويفسكي لم يكن كاتب جرائم. الحق أن أحداً من القصاصين لم يتناول الجريمة في قصصه بالتحليل العميق كما تناولها هذا الكاتب الفنان: هناك في روايته (الساذج) عامة، وفي روايته (الشياطين) خاصة، وفي روايته (الجريمة العقاب) على الأخص. . ولقد كان تحليله للجريمة في هذه الروايات الثلاث منصباً على الناحية النفسية والخلقية الاجتماعية!
وكل ما ذكره الأستاذ العقاد بعد ذلك عن قدرة دستويفسكي على الغوص في السريرة الإنسانية كما وهبة كبرى من مواهبه حقيقة ناصعة يندرج تحتها فن الكاتب الفرنسي فهما في هذه الموهبة متساويان. . . ولكن بلزاك يتفوق على صاحبه حين له تلك العناصر المشوقة التي لم يكن دستويفسكي يكترث لها التحقيق. وتبقى ناحية أخرى في فن الكاتبين من شأنها أن تثير بحثاً منفصلاً في أدب القصة. ومحورها أن دستويفسكي كان فهما للحياة من بلزاك وأن بلزاك كان أعمق تذوقاً للحياة من دستويفسكي. . . وسنتحدث في عدد مقبل من الرسالة عن الفوارق الفنية بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) تحت هذا العنوان: (القصة بين فهم الحياة وتذوق الحياة)
حول رأي قديم في أحد الكتاب
قرأت لكم في تعقيبات العدد (٨٨٩) من الرسالة كلمة تحت عنوان (الإنتاج الأدبي بين الأصل والترجمة) تقولون فيها ما نصه: (أما عن وجود التفاوت بين الأصل والترجمة في الروح فهذا أمر لا جدال فيه). . وتقولون في نهاية الكلمة: (بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فأن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي