الكلمات في الشعر، وبين الألوان والظلال في الصور، وبين الأنغام في القطعة الموسيقية.
إن الفنان؛ الذي يزعم أنه يعمل من تلقاء نفسه، ويضع التصاميم ويعد العدة سلفاً لعمله الفني، أشبه ما يكون في نظر الحقيقة بذلك الإنسان الذي تخيل إليه معلوماته القليلة أنه سيد العارفين، وقديماً قال البشر في أمثالهم: اخطر على الإنسان من المعرفة الضئيلة. . . وليس اخطر على الفنان والفنون من أن يزعم زاعمون انهم ينتجون آثارهم الفنية وفق خطط مرسومة سلفاً، فقد تنطلي تلك المقولة على الفنانين فإذا هم جربوها أوصدت في وجوههم آفاق الإلهام، والطريق إلى سر الحياة الذي يغرفون ويسبحون في غمره.
إن السحب لا تلقي حمولتها من الأمطار على الأرض إلا إذا كانت أسباب نزول المطر مهيأة؛ من درجة حرارة مواتية ورياح كافية، وكذلك النفس الإنسانية في الفنان لا تلقى حمولتها من الفن على الوجود إلا إذا كانت أسباب الإبداع والإثارة مهيأة تلك الأسباب التي تحمله على أجنحة الانفعالات إلى عالم بعيد عن الترتيب والتنظيم.
إن القطع الفنية الخالدة التي يعتز بها كل فنان لم تكن من عمل أرادته، وإنما كانت من عمل قوى خفية لا قدرة له على استحضارها كلما أراد، وإنما هي التي تحمله على الإنتاج مرغماً متى شاءت، حتى إذا ما أصبح الأثر الفني بين يديه وعاد إلى وعيه، تأخذه الدهشة في كثير من الأحيان مما يشاهد ولا يكاد يصدق عينه، وكثيراً ما يعجز عن إضافة حاشية صغيرة وهو في ظلال العقل الذي يرسم ويفكر ويفلسف.
إن النقد كثيرً ما يفلسف الحوادث، ويزيف المنطق، ويخدع العيون ببراعة تبعد عن الحقائق كثيراً والذين يفلسفون الحوادث هم في لغالب يعجزون عن وضع الحوادث أو الفنون نفسها.
فهؤلاء المؤرخون الذين يفلسفون حوادث التاريخ كثيراً ما ركبوا متن الشطط وهم يتحدثون عن أبطال التاريخ وصدى أعمالهم وبواعثها، ونتائجها وأسبابها. ومن المؤكد أن أولئك الأبطال لو أطلعوا عل ما كتبه المؤرخون عنهم لأنكروا قسماً كبيراً منه لأنه لم يخطر لهم على بال.
ومثلهم أولئك النقاد الذين كثيراً ما حملوا من الشعراء ما لا يذكره الواقع عنهم، كابي نواس والمعرى والمتنبي. . .