للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولعل قصة الحسن بن هانئ مع أحد المعلمين في بغداد تلقى بعض الضوء على ما نحن بسبيله من حديث؛ فلقد زعمت بعض كتب الأدب، أن النواسي كان منصرفاً إلى قضاء بعض حاجات فمر بمدرسة سمع المعلم فيها يشرح إلى طلابه قصيدته المشهورة:

ألا فاسقني خماً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

فأنصت إليه وإذا به يمضي في شرحه على الصورة بما معناه: إن الشاعر أراد أن يشرك حاسة الذوق، وحاسة السمع، وحاسة النظر، فإن اشتراك الحواس مجتمعة ابلغ في الشعور باللذة. ولم يتمالك النواسي نفسه لغرابة ما سمع فأطل عليه يؤكد له أن شيئاً مما ذكره للطلاب لم يدر يخلده وهو ينظم ذلك البيت.

ولسنا نشك في أن ملكة (التنظيم) التي وردت الإشارة إليها في قول الأستاذ المعداوي لا تخرج في حقيقتها عن حصول الفنان على درجة من المعرفة، لا كما يقال من الثقافة، تعينه على إزالة الصدأ الذي يغطى الدر والجوهر والذهب المتراكم في روحه، وهذه المعرفة لها قيمتها وأثرها، ذلك أنها تجعل نور الفن يشع وهاجاً كنور الشمس وراء آثار الفنان المهذب. أما الفنان غير المتعلم، فيبدو الاضطراب، وتطل الفوضى من آثاره، أن هذه الملكة في الفنان المتعلم أيضاً تتوارى كالشهادة المدرسية التي توصل حاملها إلى باب الحياة فيلجه مجرداً منها، حين ينتج الفن كما تصنع النحلة الشهد من الأزاهير.

ومن تحصيل الحاصل أن نقول في هذا الموضع من حديثنا أن الفنان يخلق ولا يضع؛ وإن كثيراً من آثار الفنانين غير المتعلمين اقرب إلى روح الفن من آثار الأدعياء الذين امتلأت بهم الطرقات، والذين يحملون أكبر الشهادات الجامعية، ذلك لأن الفن من صنع الله وليس من صنع الإنسان.

أن الحركة السريالية والرمزية إلى جانبها، وما قد يتبعها من حركات فكرية، ليست في واقع الأمر (فوضى فكرية تنسب ظلماً لي الفن)؛ بل لعل فيها بعض الشيء الذي لم تستطع تذوقه أو أبصاره وأبصره وتذوقه بعض من سوانا. أن الذين يعرفون أسرار الذرة يعدون على الأصابع، ولكن هل يعني جهل الكثرة من البشر هذه الأسرار أن قوانين تحطيم الذرة مضطربة مشوشة لا يطمئن الفكر إليها. أن الطبيعة حولنا لغز من أسرار لا تحصى، وما تزال في أول الطريق إلى التافه القليل من هذه الأسرار. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>