وتأخذ أمثالهم في الصديق، فنؤلف منها قواعد وأصولا وأسساً تقوم عليها الصداقة الحقة، ولهم عناية بهذه الناحية لأن الصداقة من الأمور اللازمة لحياتهم، فأهل السودان أكثر الشعوب مجاملة - فيما أعرف - وقياماً بالواجب، وهم لا يفرطون في شيء من ذلك في الأفراح أو في غيرها. والكرم فيهم طبيعة غالية، والضيافة من الأمور العادية، ومن شأن كل هذه الأشياء أن تقرب بين القلوب، وأن تنشئ صداقات كثيرة، لذلك نجد لهم أمثالا كثيرة في هذه الناحية، وبالنظر فيها نجدها مصورة لكل ما يحيط بهذا المعنى الكريم (فالرفيق قبل الطريق). (وماية صاحب ولا عدو واحد). و (أيد على أيد تجدع بعيد) ومعنى تجدع تقذف، و (العود الواحد ما بيوقد نار) كل هذه الأمثال ترغب في اتخاذ الصديق، وتحبب في الإكثار منه، ولكن هل يصادق الرجل كل الناس؟ لا. (فالخلا ولا الرفيق الغسل) فليتحمل المرء وحشة الخلاء، وما فيه من متاعب، فإنه خير له من أن يزامل رجلاً بخيلاً لا مروءة له، ولا رجولة فيه، ولا معاونة ترجى منه (وخصام الرجل الدكر، ولا صحبة الرجل الأصنينة) والأصنينة: الجبان، وصحبته عار، ولكن خصومة الرجال الأحرار شرف وأي شرف. فإذا اختار الإنسان صديقه، ووفق في اختياره، فليحمله كنفسه، والمثل السوداني يقول:(ربك وصاحبك ما عليهم مدسة) وليحافظ على صداقته ما استطاع، ولا يطمع في شيء من ماله أو نفسه (فالطمع على االرفيق أخير منه القماح) وليهن إذا اشتد (فالحبل بين فاضلين ما ينقطع) وعلى الإنسان أن يعرف أن الصداقة تحتاج إلى كثير من المصابرة، وأن الأصدقاء ليسوا ملائكة، وأنه يجب ألا يحاسب أصدقاءه على الصغيرة والكبيرة، فإنه حينئذ لا يجد صديقا، وهذا معنى المثل السوداني (اللي ما يبلع ريق على ريق ما يلقى رفيق) وفي معنى هذا المثل طال كلام العرب شعرهم ونثرهم:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه
ولعل من أبدع ذلك ما بعث به أحد الكتاب إلى صاحبه منذ ألف سنة يقول: (فأما الإنصاف في الصداقة فهو ضالتي عند الأصدقاء ولا أقول:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق وبصفو أن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والأخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني