أغروه بالسفر إلى دمشق، وبعد أن ركب خيل البريد أرسل خلفه رسول يعتقله، وينبئه بأن الدولة لا ترضى إلا بالحبس؛ وقد امتنع القضاة عن الحكم بحبسه؛ لأنه لم يفعل ما يقتضي ذلك، فذهب هو بنفسه قائلا:(أنا أذهب إلى الحبس تبعاً لما تقتضيه المصلحة). فأرسل إلى الحبس القضاة.
أخذ الشيخ يعلم (المحابيس)، ويفقههم حتى صلح أمرهم، وصاروا أحسن من كثير من أهل الزوايا والربط والخوانق - كما يقول صاحب الكواكب الدرية (ص ١٨١).
وكان الشيخ يزار ويستفتى ويتردد عليه، فضاق من ذلك أعداؤه وسألوا نقله إلى الإسكندرية، فنقل. وحبس هناك.
وفي سنة تسع وسبعمائة دخل السلطان الناصر مصر بعد خروجه من الكرك وقدومه إلى دمشق، وتوجهه منها إلى مصر؛ فبادر الناصر بإخراج الشيخ وذهب به إلى القاهرة (وأصلح بينه وبين الفقهاء) وقد أكرمه الناصر وراعى مكانته وبجل علمه؛ وقد مكن الله للشيخ من أعدائه، ولكنه عفا عنهم ولما لم يكن كثير المداخلة والتردد للأمراء، ولم يكن من رجال الدول، ولا يتبع معهم تلك النواميس والرسوم، قل اجتماعه بالسلطان ثم انعدم.
سكن الشيخ القاهرة بالقرب من مشهد الحسين؛ وفرغ للعلم يجيب سائليه، ويفتي مستفتيه، ويعظ ويعلم ويدرس في مدرسة أسسها الناصر. . وقد وجد بعض أعدائه أنهم لن ينالوا بشكايته لدى السلطان شيئا؛ فتفردوا به. . وضربوه ضرباً موجعاً، وذاع النبأ، نبأ إهانته؛ فسعى إليه الكثير: يبغون له الانتقام، لكنه هدأهم ومنعهم من ذلك.
وفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، توجه الجيش المصري، يردي الغزاة فخرج معه الشيخ، ثم عرج على بيت المقدس ثم إلى دمشق فكان لمجيئه سرور عظيم.
ولم يذهب الحيف والاضطهاد عن الرجل في دمشق أيضا؛ ففي سنة ٧١٨ هـ أشير عليه بترك الإفتاء في مسالة الحلف بالطلاق، ومنعه السلطان من ذلك؛ ولكن الشيخ عاد فأفتى فعوقب ثم سجن بالقلعة سنة ٧٢٠ هـ خمسة أشهر. . ثم أخرجه السلطان.
وفي سنة ٧٢٦هـ استأنفت الأيام محاربتها إياه، وضربته ضربات أخرى هو ومن بقى من أصحابه: فقد سجن هو وصحبه؛ ثم أخلي سراحهم إلا تابعه ابن قيم الجوزية؛ وكان موقفاً جديداً من أثر المواقف وأشدها بلاء. امتحن فيها الشيخ فثبت، وتلك المحنة هي: أن سائلا