هداية الإنسان إلى سبيل نفسه؛ أي سبيله الباطني الذي هو مناط سعادته في الشعور بالسعادة ثم ذكر الصبر على أذى الناس والأذى لا يقع إلا في حيوانية الإنسان، ولا يؤثر إلا فيها. فكأن الآية مصرحة أن نجاح المؤمن ونفاذه في الحياة لا يكونان أول الأشياء وآخرها إلا بثلاث: العزم الثابت، ثم العزم الثابت، ثم العزم الثابت. وان الصبر ليس شيئاً يذكر، أو شيئاً يجدي، أن لم يكن صبراً على أذى الحيوانية في افظع وحشيتها؛ فالروح لا تؤذي الروح، ولكن الحيوان يؤذي الحيوان. وأن ما يقع من هذه الحيوانية فيسمى اعتداء من غيرك، ويسمى أذى لك، هو شيء ينبغي أن يجعله العزم فخراً لقوة الاحتمال فيك، كما جعله البطش فخراً للقدرة عند المعتدي
وبهذا يكون العزم قد فصل بين نفسك الروحية وبين شخصك الحيواني، ووهبك حقيقة الشعور، وصحح بمعاني روحيتك معاني حيوانيتك؛ وحينئذ ترى السعادة حق السعادة ما كان هداية لنفسك أو هداية بها، ولو انقلب في الشخص الحيواني منك أذى وألماً. ذلك صبر أولي العزم من الرسل
قال الراوي: وعند ذلك صاح رجل كان في المجلس دسه عامل الخليفة ليسأل الشيخ سؤالاً على ملأ الناس، يكون كالتشنيع عليه والتشهير به؛ وقد مكر العامل فأختاره شيخاً كبيراً اعقف، ليرحم الناس رقة عظمة وكبر سنه فلا يعرضون له بأذى، ثم ليكون صوته كأنه صوت الدهر من بعيد. قال الصائح: ذلك أيها الشيخ صبر أولي العزم من الرسل، أو صبر ابنتك على مكاره العيش مع أبي وداعة، لا يجد إلا رمقة يمسك بها الرمق عليها وقد كانت النعمة لها ممرضة، فدفعتها إليه زعمت - لتهلك به شخصها الحيواني، وتوكلت على الله وألقيت ابنتك في اليمّ. . .؟
فتربد وجه الشيخ واطرق هنيهات، ثم رفع رأسه وقال: أين المتكلم آنفاً؟ فأرتفع الصوت: هاأنذا. قال: ادن مني. فتقاعس الرجل كأنما تهيب ما فرط منه. فاستدناه الثانية؛ فقام يتخطى الناس حتى وقف بازائه ثم جلس؛ فقرأ الشيخ قوله تعالى:(وبرَزوا لله جميعاً، فقال الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنَّا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنونَ عنّا من عذابِ اللهِ من شيء؟ قالوا: لو هدانا اللهُ لَهَديناكم سواء علينا أَجَزِعنا أم صَبرْنا مالنا من مَحيِص)
ثم قال: أيها الرجل، لا تسمعني بأذنك وحدها. أرأيتك لو سمعت خبراً ليس في نفسك اصل