الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه. فبروا من التصفيق اكفهم وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقاً، فكنت تسمع من هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعراً من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على إلا يلقوا خطابه إلا بالجمود والأعراض
وجهد بالرجل، فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي والمرحوم احمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظراً. ومع هذا فما برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون!
ولقد اذكر انه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ وافقت في طريقي صديقاً لي من شبان الحزب الوطني وهو الآن من أعلام آهل الفضل الذين يتولون منصباً جليلاً في السلك القضائي. وكان مسرفاً غالياً في التشيع لمبادئ حزبه. مفرطاً في بغض الشيخ شديد الحمل عليه ورأيته يضرب كفاً بكف فسألته ما به؟ فأومأ إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال:(على حس الخطبة دي، يقعد ابن الـ. . . يخون في البلد ثلاث سنين)!
ولا زلت كلما لقيت صاحبي اذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ لا ادري أن كان من تذكيري له بهذه القصة، أم انه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن القديم؟! الله اعلم!
ولقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلاً مكافحاً، بل أن قلمه لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فأنه كان فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني، لا يهرول إذا هرول في الصغائر ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم
ولا احب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد اضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكاً حتى يدوخ رأسه ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك النضال
وكان في كتابته سريعاً جداً، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس عازفاً على قانون لا مسطراً بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الاضمامة دفع بها إلى من يفضي بها