في ضعف، وقد أعماه الهوى الجامح عن الهوة السحيقة التي يوشك أن يتردى فيها.
ودخل الفتى دار الفتاة - لأول مرة - فألفى يد المدنية قد انبثت بين ثناياها فرتبتها على نسق يثير الدهشة والإعجاب، ووجد آثار النعمة قد تغلغلت في أضعافها فهي تتألق في كل مكان وتنبعث من كل ركن، فانجذب لها قلبه وعقله في وقت معا، وما له عهد بما يرى ويحس، فتمنى - في أعماق نفسه - لو أن له مثل هذه الدار فينعم بما فيها من ترف وثراء، ونسى أن بهرج الحضارة زيف لا قلب له ينبض، وغاب عنه أن ألق المدينة سراب لا عقل له يفكر به. وإلى جانبه أم الفتاة تمكر به في لباقة فتخدعه عن أهله وتختله عن نفسه.
آه، لقد أحس صاحبي بالحرية طفرة واحدة، الحرية التي لا تعرف الأخلاق ولا تؤمن بالكرامة ولا تسمو إلى الإباء. لقد انطلق الطائر السجين من بين قضبان القفص الضيق يبتغي الحرية والانطلاق فوجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فما استطاع أن يرد على نفسه المكر والخداع حين راحت عجوز من النساء توسوس له وهو يندفع على آثارها في حماقة وغي. والتاث عقل الفتى فانطلق - ذات مساء - إلى دار الفتاة التي أحب ليكون زوجا لها؛ وليكون ربا لدار التي انجذب لها قلبه وعقله في وقت معا؛ وليذر من خلفه زوجة فيها الوفاء والإخلاص، وفيها الطاعة والاستسلام، ليذرها وحيدة بين الصبية تعاني شدة القر وألم الوحدة ولذع الخيانة.
وشعر الفتى يوم أن خلا به وبفتاته المكان. . . شعر بأنه دخل الجنة التي كان يطمع فيها ونسى الزوجة الأولى هناك بعصرها الضيق ويفريها الأسى وتعركها الغربة. وعز عليها أن تعيش طويلا في هذا القيد فأرسلت إليه تقول (إذا لم تكن في حاجة إلى فسرحني سراحا جميلا ودعني أسافر إلى أهلي في القرية، فأنا هنا - كما تعلم - أجد مس الغربة والوحدة ولا أستطيع أن أتشبث بسوي رجولتك لأنني بعيدة عن أهلي وعن ذوي قرابتي أفتقد العون والساعد ولا أعرف الطريق. وأنت أخذتني من بين أهلي يوم أن أردتني لك زوجة، واليوم - حين عافتني نفسك أهيب بشهامتك أن تدفعك لترافقني إلى هناك. وهذا - ولا ريب أمر هين لا أخالك تظن به على)
وانتفض الفتى للفكرة، وجاء تاريخه الطويل يعرض نفسه وهو يسمع صرخات الدم