ثم رأيته رأى العين، وكان ذلك في استنبول حينما نفى إلى تركيا، فقد كنت أتناول الغذاء في مطعم روسي بحي (بيوغلى) حينما جاءت المضيفة وهي سيدة من الروس البيض، وأسرت إلى بأن أنظر إلى مائدة عليها جماعة من الناس، تحيط بها عدة موائد مشغولة برجال يظهر على سحنتهم أنهم من رجال الأمن، ثم قالت: ها هو تروتسكي بين الجالسين قالت هذا والفرح يشع من عينيها. أنها كانت تنتظر هذا المصير لجميع رجال البلاشفة، والعودة إلى وطنها حيث ذكريات الماضي، أنها كغيرها كانت تحلم بالفردوس المفقود. . .
ولما توجهت لتلك الناحية بناظري، رأيت عن قرب الرجل الذي كتب المذكرات التي رافقتني في ذهابي وإيابي بقطار حلوان قبل ذلك العهد بأكثر من عشر سنوات، رأيته جالسا أمامي على بعد خطوات مني، فكان أول ما لفت نظري تلك اللحية المدببة على وجه أصفر اللون، أظهر ما فيه النظارتان ثم العينان، أن لهما لونا خاصا بين الزرقة والخضرة الفاتحة، أنه قريب الشبه بالصور المنحوتة على بعض المعابد المصرية القديمة، والتي تمثل جماعات الآسيويين في هجرتهم من آسيا إلى أفريقيا. . .
رأيته رقيق الجسم أقرب إلى القصر منه إلى الطول، يحوطه شيء من الغموض والانكفاء على نفسه، فهو قليل الكلام مع من معه، مقتر على نفسه حتى في تناول الطعام.
جاء تروتسكي إلى تركيا بناء على اتفاق سابق مع السوفييت، بعد أن ضيق هؤلاء الخناق عليه إبتداء من أوائل سنة ١٩٢٨، فبعثوا به إلى أواسط آسيا حيث قضى سنة على حدود أراضي الصين، ولما خفتت أصوات أنصاره وتبين للسلطات أنه لم يعد ينفع ولم يعد يضر، سمحوا له بمغادرة البلاد، ووافقوا على أن يقيم بتركيا، فنزلها في فبراير ١٩٢٩ واختار أن يسكن في منزل بسيط بجزائر الأمراء، الواقعة أمام الشاطئ الآسيوي.
وكنا كثيرا ما نذهب لقضاء يوم بطوله في تلك الجزر الجميلة وفي أحد الأيام طرأت علينا فكرة زيارة تروتسكي والتحدث إليه، وجاء الاعتذار عن لسانه بالتلفون رقيقا، مما يدل على أن الزعيم قد أعطى كلمة الشرف، على ألا يستقبل غير أهله واخصائه في منفاه، وهكذا رأيت تروتسكي وضاعت مني فرصة التحدث إليه والسماع لأقواله ونظرياته.
يحدثنا تروتسكي عن نفسه في كتابه عن تاريخ حياته، فيقول أن الطبيعة قد قضت عليه منذ نشأته: أن يكون ثوريا انقلابيا، فهو قد ولد ونشأ وعاش وكافح من أجل أفكار ومبادئ