هذه هي خلاصة العوامل التي تسيطر الآن على مجرى السياسة الأوربية. والظاهرة الجوهرية التي تبدو خلال ذلك كله هي اشتداد التنافس في أحياء المعسكرات الأوربية القديمة وإنشاء الكتل الهجومية الدفاعية التقليدية. لماذا؟ استعداداً لحرب تلوح في الأفق. وما زالت فرنسا هي المتفوقة في هذا الميدان ولكن ألمانيا تعمل أيضا، رغم عزلتها السياسية على إنشاء معسكرها وحشد حلفائها. وقد ظفرت أخيراً بكسب بولونيا وسلخها عن كتلة الدول المتأثرة بالسياسة الفرنسية وأحداث أول ثغرة بذلك في المعسكر الفرنسي ولم تعبأ ألمانيا بفداحة الثمن الذي دفعته لتحقيق هذه الغاية وهو التسليم بالممر البولوني الذي يشق أراضيها إلى البحر. ومازالت ألمانيا تتمتع بشئ من العطف في المجر ويوجوسلافيا لأنها تشتري محاصيل البلدين. ولكن ذلك لا يمكن أن يعوض عليها خسارتها الفادحة بفقد معاونة روسيا ومحالفتها؛ وقد كان إغضاب روسيا وفقدها من اعظم أخطاء ألمانيا الهتلرية خصوصاً وان روسيا لم تتحول عن ألمانيا إلا لكي تتفاهم وتتحالف مع فرنسا ألد واخطر خصومها وروسيا السوفيتية قوة لا يستهان بها
وقد يكون من المبالغة أن يقال أننا الآن على أبواب حرب قريبة ولكن ليس من المبالغة أن نقول أننا نشهد الآن نذر الحرب القادمة ومقدماتها. ومتى هذه الحرب؟ قد تقع بعد اشهر وربما بعد أسابيع إذا تطورت الحوادث في يوجوسلافيا فجأة وافلت زمام الموقف من يد حكومة بلغراد؛ وقد لا تقع إلا بعد عامين أو أعوام قلائل إذا بذلت جهود صادقة لاتقائها أو لتأخيرها. وعلى أي حال فليس مبالغة أن نقول أننا نشهد الآن من تطورات السياسة الأوربية أقربها أشبهها بتلك المرحلة التي تقدمت الحرب الكبرى وبلغت ذروة خطورتها في صيف سنة ١٩١٤. والواقع أن أسباب الأزمة الأوربية الكبرى تجتمع وتتفاقم منذ عامين؛ وأهمها بلا ريب لخفاق مشروع نزع السلاح، والفشل الذريع الذي لقيته عصبة الأمم في حل مختلف المشاكل الدولية؛ وانهيار سياسة التفاهم الدولي والتحكيم التي بلغت ذروتها بعقد ميثاق تحريم الحرب، ولم يلبث أن ظهر عقمها من الوجهة العملية ثم قيام الحركة الهتلرية في ألمانيا وما جنحت إليه من سبل العنف والوعيد، وما أثارته في فرنسا من هواجس ومخاوف جديدة. بيد أن هذه الأسباب كلها ترجع إلى اصل واحد، هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) التي لم يراع في وضعها سوى تحقيق شهوات الظافرين واطماعهم، ولم