للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شيئاً فشيئاً، حتى أوشك أن يجعل لي من هذه الحياة قفصاً لا حيلة لي في رد عائلته. . . فماذا كنت تريدني أن افعل يا صديقي وهذه الأسباب قد أجمعت علىّ أمرها فغلبتني على أمري. .؟ لقد وليت هارباً، ولكن ضميري ظل يضايقني باحتباسه حتى أفرجت عنه بكأس الخمر. . تلك الكأس التي أحرقت همومي أحرقتني، وأذابت ضميري وكبدي وسلبتني ولم تعطني. . . أليست تلك النار من الشعلة التي أسلمتها الشياطين ليد المرأة. .؟ انك تقدر المرأة لأنك غريب عنها ولكن اعلم يا صديقي إنها منذ القدم آلة فساد وعنصر تقلب، وأداة رياء، وكل ما في الحياة من شر إنما هو بسمة خادعة انفرجت عنها شفتا امرأة، وهذا المصير المحزن الذي انحدرت إلى أعماقه، إنما يرجع إلى تلك المرأة التي أحببتها فكرهت لي الحياة، وغمرتها بفضلي فرفعت رأسها كالحية الرقطاء. . . مرت الأيام كالأشباح الهزيلة، وأنا أهيم على وجهي إلى أن شاءت الأقدار أن تدفع إلى يدي صحيفة (الرسالة) فقرأت عن المرأة التي هجرها زوجها فماتت كظيمة الحزن دفينة الألم، وبقي طفلها على صدرها يبكي وينتحب ورأيت طرفاً من قصتي يختبئ بين سطور تلك القصة وما أن وصلت في القراءة إلى اسمك في ذيل المقال، حتى ذهب عني الشك وتذكرت جاري القديم وأخذت عليه اندفاعه في الكتابة دون تبصر أو روية. . . وها أنا قد سعيت إليك بعد أسابيع بعث الله لي فيها من تولي الدفاع عني، فقد قرأت بجوار قصتك ما كتبه الرافعي في (تربية لؤلؤية) وتابعت ما وصف به المرأة فيما تلا ذلك من أعداد فسررت أن رأيت المرأة تدفع دفعاً إلى المكان الخليق بها. . .

قلت: يشاء الجمود أن يجعل في نفسك طبيعة صخرية حتى أمام جلال الموت وتشاء تلك الطبيعة الصلدة أن تنبش قبور الراقدين في غير رحمة ولاشفقة، فزوجتك التي لفحت وجهي بأنفاسها المحترقة وهي تعاني عذاب الموت، والتي ظلت تردد اسمك إلى أن لفظت روحها تلك الزوجة المسكينة المنكودة يأبى عليها القدر القاسي أن تفوز منك وهي تحت أطباق الثرى إلا بوابل السخط واللعنة تصبه على جدث هامد لا يملك رد غائلة، ولا يقوى على دفع نازلة وهذا لعمري عداء ضاعت منه صفة الشرف. . . والمرأة مذ خلقت وهي تعاني شر هذا العداء لا لشيء سوى أن الرجل يميل بطبيعته إلى جنسه وتدفعه الأثرة إلى أن يسود نفسه ويعظم من شأنه ويحقر من أمر تلك المخلوقة التي جاءت تنازعه البقاء، فهو

<<  <  ج:
ص:  >  >>