نجانا من هاته المحنة الرهيبة، فلما أصبحنا وجدنا أنفسنا بأرض كأنها واحدة من هاتيك السيارات الوعرة التي بخلت عليها الطبيعة بالحياة؛ فإذا رأيت ثم رأيت هضابا شامخة وكثبانا عريضة وصخورا متراكمة وصحراء قاحلة تترامى حتى كأنها تلتقي بالسماء عند الأفق البعيد، وكأن البحر قد اغتال متاعنا كما اغتال سفينتنا فانتشرنا في هذه الأرض المجهولة باحثين عن شيء يمسك علينا رمق الحياة من صيد أو نبات، وذهب النهار وذهبت جهودنا أدراج الرياح وعدنا من حيث أتينا وقد أنهكنا التعب وألح علينا الجوع فقضينا على الطوى ليلة أخرى، وعند مطلع الفجر قمنا إلى الصلاة ثم تفرقنا في جهات شتى بحثا عن القوت حتى انقضى اليوم ولم نعثر على شيء فبتنا بليل أليم. فلما تنفس الصبح وصلينا الفجر لبثنا في موضعنا منهوكين حيارى حتى قال قائل منا ما ينبغي لنا أن نستسلم للموت هكذا ولن نرزق ونحن هاهنا قعود يائسون ولكن يطلب الرزق بثلاثة: العمل والأمل والتوكل على الله، فانتشروا في الأرض ينشر لكم ربكم من رحمته. وقال آخر تعالوا نجعل لله على أنفسنا شيئا إن هو خلصنا من هذه الشدة؛ فنذر بعضنا صياما ونذر بعضنا صدقة. وقال آخر أصلي كذا وكذا ركعة، ونذر بعضنا حجا إلى أن قال كل منا شيئا وبقيت أنا مطرقا لا أتكلم، فقال أحدهم. ما لك لا تجعل لله عليك نذرا فعساه يفرج ما بك فإنك حري بأن تطلب الخير إن نؤتيه وإلا فإنك لا تجني من الشوك العنب؛ فقلت لله على أن لا آكل لحم فيل أبدا، فتصايح رفاقي غاضبين وقالوا: أو تهزل في مثل هذا الظرف العصيب؟ قلت تالله ما الهزل أردت ولا قصدت بقولي مزاحا ولا دعابة ولكنني فكرت مليا فيما أدعه لله فما خطر ببالي ولا جرى على لساني إلا هذا النذر العجيب. ولعله وقع مني كما وقعنا نحن على هاته الأرض الغامضة لأمر يراد؛ فانظروا ماذا بعدها مما كتبته لنا الأقدار على صفحات الليل والنهار.
. . . قال وتفرقنا في فجاج الأرض وتوغلنا في مسالكها حتى مال ميزان النهار واصفر وجه الشمس وطفقت تطوى ذيولها الوردية عن الآكام والرمال حتى توارت بالحجاب. وعاد رفاقي تباعا دون أن يجدوا شيئا إلا واحدا منا أبطأ في العودة حتى ظننا أنه قد هلك في أحشاء الصحراء من فرط التعب والإعياء. فارتمينا على الأرض منهوكين حيارى لا نكاد نقوى حتى على الكلام وإنا لكذلك إذا بصاحبنا الغائب مقبلا علينا يلهث ويرتعد مما به