من التعب فألقى عن كاهله شيئا وإذا هو ولد فيل صغير فاجتمع عليه رفاقي فاحتالوا به حتى ذبحوه وجعلوه سليخا مشويا وأقبلوا ينهشون من لحمه إلا أنا فقد لزمت موضعي فقالوا تقدم وكل ولا عليك من نذرك السابق فإن لك فيه عذرا. . . قلت إني لأعلم أن الضرورات تبيح المحذورات ولكن قلبي يحدثني أن من وراء هذا الاتفاق العجيب سرا في ضمير القدر، وقد علمتم أني تركت لحم الفيل منذ ساعة تقربا إلى الله وما كنت لأرجع في شيء تركته له ومن يدري. فقد يكون هذا الذي جرى على لساني وأنكرتموه مني إنما هو لحضور أجلي من دونكم لأني ما أكلت شيئا منذ أيام وما أطمع في شيء آخر وما يراني الله أنقض عهده ولو مت وأني لمؤمن بالقدر راض بتصاريفه مهما تراءت الآن عجيبة قاسية فصبر جميل حتى يبلغ الكتاب أجله. . واعتزلتهم وأكلوا حتى فرغوا وسرعان ما غشيهم النوم فراحوا في سبات عميق وارتفع غطيطهم وبقيت وحدي ساهرا أتململ مما في أحشائي من آلام الجوع وهيهات يأوي النوم إلى عين استبد بها الخوف أو برح بها الألم وألح عليها الجوع القاسي؛ فذهبت أتشاغل بالإنصات إلى صفير الرياح في الصحراء وهدير الموج في البحر الخضم وأتأمل البدر المتألق في صدر السماء العاري وهو يرسل أشعته الفضية على الرمال والآكام ويشق طريقه بين النجوم متثاقلا واجما كأنه يرثي لحالي التعسة وقد ساد السكون وخيم الليل الموحش على المكان فتولاني خشوع عميق شغلني بعض الوقت عما أعانيه من الحيرة والألم.
قال أبو إسحاق وفي جوف الليل الصامت وسكون السحر الرهيب ترامى إلى سمعي صياح بعيد جعل يقترب ويرتفع في الفضاء سريعا وإذا أنا بفيل ضخم أقبل يقتفي أثر ولده حتى وقف علينا وعاين أشلاء ولده الذبيح فصاح صيحة نكرا. أفزعت رفاقي من سباتهم بيد أنهم لم يستطيعوا النهوض أو الفرار مما أخذهم من الفزع والذهول؛ فأقبل عليهم الفيل وجعل يمد خرطومه إلى الواحد منهم فيشمه فإذا وجد منه ريح لحم ولده رفع رجله فوضعها عليه وتحامل حتى يهشم أضلاعه فيقتله ثم يميل إلى صاحبه فيفعل به كذلك وقد انطرح القوم على الأرض وذهبوا يرددون الشهادة التي هي آخر الزاد من الدنيا. ورحت أنظر الفيل وهو يبطش برفاقي واحدا واحدا وقد جمد الدم في عروقي وانعقد من الروع لساني وخارت قواي ونضح جسدي بالعرق البارد وطارت نفسي شعاعا فرحت أتمتم بالاستغفار والشهادة