كان أرسطو وما زال بدعا في تفكيره، وينبوعا ثرا صافيا يستقي منه الباحثون، يعتزون بآرائه، ويفصلون فيها القول، ويشققون منها الأدلة كأنها من وحي هذا العصر.
وقد فطن العرب في عصرهم الذهبي إلى نفاسة مؤلفاته، فترجموا بعضها، ثم استقل في العصر الحاضر معالي الأستاذ لطفي السيد باشا بترجمة كتاب الأخلاق ولكن (كتاب الخطابة) - وهو من أجل كتب أرسطو وأصحها نسبة إليه - نال بعيدا عن اللسان العربي في صورته الصحيحة الكاملة إلى أن نهض بترجمته (الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة) ترجمة دقيقة أمينة سلسلة موسومة بطابع الأديب الذواق حين ينقل من لغة يدرك بلاغتها إلى لغة يفقه أسرارها.
ولم يشأ أن يحبس عمله على الترجمة وحدها، ولو أنه فعل ذلك وحده لكان جديرا بالشكران، وإنما قدم الكتاب بمقدمة حافلة في نحو مائة صفحة، تشع نورا على أرسطو، وعلى كتاب الخطابة وهي وحدها بحث قيم، بل كتاب مستقل خليق بالإعجاب.
عرض المترجم في المقدمة حياة أرسطو وكتبه، وأثبت أصالة كتاب الخطابة من حيث أنه صحيح النسبة لأرسطو فليس لا لغيره ممن تقدمه من الخطباء أو ممن تأخر عنه من تلاميذه. ومن حيث إن أفكاره أصيلة في نفس أرسطو، فهو كما يقول (أرنست هافي (ذو طريقة ونهج تفرد به أرسطو، فلم يعرض أحد من سابقيه من خطباء وغير خطباء عرضه ولا نهج نهجه، ولا تزال جدته باقية على الزمن ولا تزال خصبة منتجة) وهو لذلك لم يقتصر على الخطابة القضائية كما فعل سابقوه ومعاصروه، بل شمل بحثه أنواع الخطابة كلها، وخالفهم في عرضهم طريقتهم وآرائهم.
وقد تطلب البحث أن يعرض للخطابة قبل أرسطو، فتكلم عن السفسطائيين، وعن المدرسة اليونية، والمدرسة الإيلية وتعارضهما، ومناقضة السفسطائيين لهما، ثم عن حملة سقراط وأفلاطون على السفسطائيين، ونظرة سقراط إلى الخطابة ونظرة أفلاطون، ليخلص من ذلك إلى نظرة أرسطو في الفن الأدبي وتفريقه بين الفلسفة من حيث إنها علم وبين الخطابة من حيث إنها خطة ومنهج يتبعان الخطيب، ومن حيث إن هدف الخطابة الإقناع وهدف العلم البرهان. . . الخ.
ثم ساير كتاب الخطابة في الزمن، فعين زمن كتابته، ووضع بعثه في أوربا في القرن