للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جديد يستنير بأضواء الكتاب وأقباس المؤلفين يعالج ما عالجوا وينقد ما نقدوا يسايرهم مرة ويغايرهم مرات. ذلك لأنه يحرص في أداء رسالته الجديدة على الصدق والحقيقة والخير، فالشعر يهيج الشعر والكلام يثير الكلام. ولله ما أصدق أكتب كتاب العربية أبا عثمان الجاحظ حين يقول: (كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام فإنك إذا ثنيته طال)!. وكذلك الشأن في التأليف فإنه يدفع إلى التأليف، كما أن القراءة تلهم الكتابة.

ومن حقنا أن ننصف حين نعالج الأمور، فليس عدلا أن يكون الذنب ذنب الجامعة وحدها بل هناك ذنب العصر الذي نشأنا فيه، فلقد غمرنا بعلل نفسية وأدواء اجتماعية بتنا أساراها نعانيها ولا ندري طريق الخلاص منها، فالعصر مضطرب هائج بالويلات، والثبور مائج بالفتن والحروب، والنفوس لا تستقر على حال من القلق كأنها الريشة في مهب الرياح كما يقول أبو الطيب المتنبي. . ولقد (قذفت الأمهات المضطربات هذا الوجود بسلالة شاحبة عنيفة مستعرة الأحشاء، نشأت على دوى القذائف ورائحة البارود وغبار المعارك، ففقدت إرادتها وأضاعت اتزانها وعاشت للسأم والملل) كما يقول (موسيه) في اعترافات فتى العصر!

وأحسب أن الحضارة قد قتلت (الكتاب) وأن المدنية قد خلقت أزمة القراء. فهذا هو المذياع قد قرب البعيد ويسر الممتنع وجعل العالم بين إصبعيك فما أطقت أيها الإنسان الملول الضجر أن تستمع إلى أخبار العالم ملخصة في أسطر، وما صبرت على الأديب يتحدث في دقائق معدودات حتى يتم حديثه، ولا على الشاعر حتى ينهي قصيده، ولا على المغني حتى يتم أغنيته، وأخذت بين إصبعيك العالم بأسره تبحث عن شاطئ السلام فلا تجده، وتفتش عن مرامك فلا تظفر به، وأنت لا تعرف على التحديد ما تريد، ولا تعلم على التحقيق ما تبتغي، وتظل رهين قلقك أسير ملالك حليف أساك. . وحين ملت أذنك السماع وفرت لك (الشاشة) النظر فعرضت لك الحوادث مصورة والأنباء مجسدة والوقائع ناطقة، فأشاحت العين بعد أن نفرت الأذن، ورغبت كلتاهما عن السماع والنظر.

لقد قتلت القصة الشعر كما صرعت المقالة الكتاب، وعفت الشاشة على القصة والشعر والمقالة والكتاب. وها هو ذا الإنسان يسأم النظر إلى الشاشة ويعاف سماع المذياع، لأنه ابن عصر قلق ضجر ورث عنه قلقه وضجره. فهل لأطباء النفوس أن يعالجوا داءه

<<  <  ج:
ص:  >  >>