تشرف بها على أقصى أعماق الطبيعة الإنسانية، وتفضي بها إلى أخفى الحقائق في محيط هذا الكون الحافل الزاخر اللامحدود. وأنكم كذلك ترهفون السمع في العمل الفني إلى صدى ذلك الرنين، بل إلى الرنين نفسه، الذي أودعته فيه ملكة فذة من تلك الملكات التي ترصد لكل معنى يخطر ولكل كلمة ترسل نغما خالداً لا يجوز عليه الفناء، لأنه مما توقع عليه تجارب الحياة في مجال الشعور الصادق، ومما توحي نتائج تلك التجارب في نطاق الذهن المتفوق!
كل ذلك يحملني على الكلام ويغريني به، لأنه يجعلني أشعر بالطمأنينة إلى أنكم تنظرون إلى الحقائق الفنية الثابتة، من نفس الزاوية التي أحاول أن أنظر منها إليها، وأنكم تضعون للأعمال الأدبية الميزان الذي لست أو من بغيره! أجل، وهاأنذا الآن أقرأ لكم هذا التعقيب البارع على كلمتي السابقة، أو هذا المقال الفصل، على إجازة، في شاعرية العطار، مرتكزاً فيه الحكم على إنتاجه العام، فأجدني راضياً كل الرضا عما أقرأ، مقتنعاً كل الاقتناع بأن ما رأيتموه في شعر الشاعر يتفق في جملته وهذا الذي أراه.
هو في جملته شعر يعوزه عنصر الحياة الذي يذكي خواطر القارئ، ويلهب وجدانه، ويهز أوتار قلبه وكيانه. . وإن كان لا يخلو من اللفتات الشعرية المحلقة في بعض الأحيان! وهو شعر تنقصه أصالة الرؤية الشعرية، وطبيعة الحركة النفسية، برغم أن قائله من أحلى الشعراء جرساً كما تقولون. . أو هو بعبارتي الخاصة، شعر يفتقر إلى ذلك الإشراق الذي يشف عن الآفاق الفنية المترامية التي يتداعى إليها الخيال المبدع؛ وذلك الدفء الحبيب الذي يمسك على الأثر الشعري حياته وأنفاسه ويصون نظره ورواءه، وهو يفتقر أخيراً إلى تلك الموسيقى النفسية التي تحدثتم عنها في نقد الشعر
على أني أخشى يا سيدي الأستاذ ألا نكون قد اتفقنا بعد على وضع الشاعرين، أباظة والعطار، في طبقة واحدة. فشعر أباظة على الأكثر شعر موفور: تحوطه هالة من الألوان التي تهيئ للذهن ذلك الجو الخالص حيث تسبح المعاني وترقص الأخيلة؛ وتترقرق في أعماقه موجة الحياة حارة صادقة، الحياة التي تدنو به من نفسك، بل تلصقه إلى نفسك، ويغطي كل ذلك على مشاعرك ويمتد سحره إلى قلبك، حيث جذور الحياة الإنسانية، ليهزها من أصولها هزاً، ويغمرها غمراً! وأباظة فنان يقدم في إطار من أجمل الشعر وأطرفه