أشرقت الشمس ثم غربت مرات كثيرة. وتعاقبت الليالي والأنهر، وتصرم العام تلو العام، وما زال الشاب يضرب على وجه الأرض! لقد مر بقرى كثيرة، وفي إحداها وجد الفلاحين ذات مرة مستسلمين إلى نوم عميق أغرقهم فيه عملهم المضني. وكان الظلام الكثيف يلفع الأكواخ الحقيرة، والصمت أشبه ما يكون بصمت القبور. . .
(أين أنت أيتها (السعادة)؟) هكذا صرخ الشاب، ولكنه لم يظفر بجواب
واقترب من باب أحد الأكواخ وخفق قلبه متطيراً قلقاً وبعد هنيهة سمع وراء الباب أنيناً خافتاً وتنهداً عميقاً يائساً
إذاً فلا بد أن تكون (السعادة) في هذه الساعة المتأخرة تنتحب وسط ظلام الكوخ الموحش.
ومشى الشاب في طريقه حزيناً متثاقلا، وقطع الأنهار والبحيرات والوديان حتى ارتقى جبلا شامخاً، وإذا هنالك راع يرعى قطيعه، وكان العشب القصير الكثيف يتألق بما عليه من دموع الفجر وبدأت الريح اللطيفة تبعث بصوف الخراف التي بدأت ترتعش من برودة الصباح، وأسرعت تلتمس الدفء تحت أشعة الشمس المشرقة. أما الراعي، فقد كان شابا فتيا يحمل كيساً على ظهره، وقد جلس على صخرة، وأخذ يعزف على نايه، وهو يحدق في الأفق الأزرق بتخيل حالم، وكانت أنغامه المنخفضة العذبة تسيل من نايه، لطيفة كأشعة الشمس الأولى، حالمة كعيني العذراء، متسقة كذلك الضباب الأبيض المحلق فوق الجبال؛ وأخذت أنغامه تزحف بهدوء كالضباب فوق الصخور والأحجار والأعشاب، وأنصت القطيع إلى أنغام الراعي.
- (أخبرني، أخبرني، بالله عليك، لمن تغني؟)
- (لمن أغني؟ هل تغني الريح لأحد؟ إنني أغني لأنني لا أستطيع أن أمكث بدون غناء. . . إنني أعزف لأشياء مجهولة!)
- (هل تعرف السعادة أيها الراعي؟)
- (السعادة؟) إنني لم أعثر عليها قط في هذه الجبال؛ فأنا وحيد هنا مع خرافي بين قليل من الثلج والضباب. وأؤكد لك أن ليست السعادة من حوريات الغاب - لأنني أعرفهن جميعاً ولكن برغم الناس أنها هناك، بعيداً بعيداً. . . ألا ترى هناك مدينة جميلة؟ أوليس ممكناً أن تعيش (السعادة) فيها؟. . . لست أدري. . . إذ لم يسبق لي أن كنت هناك!. . .)