وهبط الشاب الجبل بعد أن تملكته رغبة أشد من قبل، ويمم وجهه نحو المدينة العجيبة. حقاً لقد كانت المدينة عجيبة - لأنه لم يكن قد شاهد نظيرها: - عمارات فخمة، وشوارع واسعة، ومراكز تجارية، وملاهٍ، وجنائن، وقصور. . . يغمرها جميعاً نور ساطع باهر وكان الثراء والبهاء والرخاء تتألق في جميع أرجائها.
وشرع الشاب يقطع شارعاً ويدخل آخر، وما لبث أن رأى أمام جدار يحيط منتزه، متسولا صغيراً يرتجف من شدة البرد، ويطلب الإحسان بصوت كئيب.
وتابع الشاب طريقه. . .
ثم وقف ليلقي نظرة من النافذة على أحد الملاهي، وإذا جمهور الناس يصفقون إعجاباً بفنانة شابة كانوا يعظمونها كأنما هي إلهتهم فانحنت أمامهم بلطف عذب، وبانت كأنما (السعادة) تتوهج في ابتسامتها؛ ولكنها دخلت بعد بضع دقائق غرفة اللبس، تبكي بخزن.
وغادر الشاب المدينة العظيمة، ولم يعد يلقي ولو نظرة واحدة إلى الوراء، فلقد حزت في نفسه التنهدات الأليمة التي كان يصعدها المتسول الصغير والبكاء اليائس الذي أطلقته الإلهة المعبودة.
وظل يخبط بالأرض مدة طويلة، وأخيراً وقف في مكان بين جبلين حيث كان يسكن في أحد المغاور العميقة ناسك طاعن في السن، بعيداً عن الناي وقريباً من الله. . .
وعندما وقف في حضرة الحكيم الناسك سأله بلطف:(هل تعرف يا سيدي الجليل مقر السعادة؟).
وكان الناسك آنئذ مستغرقاً في قراءة كتبه، يستوعب منها حكمة الدهور. ومضت فترة طويلة قبل أن أجاب على سؤال الشاب. وعندما رفع رأسه الأشيب، نظر إلى الشاب نظرة باهتة وبدت على وجهه المخدر ابتسامة صارمة.
ترى هل كان يفكر في شبابه المضمحل؟
(أسعادة لك؟) تساءل الحكيم بلهجة تشوبها الشك. ثم استغرق في التفكير. . . وعندما عاد ورفع رأسه، أخذ يتكلم بقسوة، فقال: - (عبث ذلك، إذ ليس هنالك من (سعادة)!. . إن هي إلا حلم من الأحلام!)
فأخذ الشاب يتنهد ثم قال: - (إذاً فما غايتي من (الحياة)؟ ولم أحتمل كل هذه الآلام؟ وما