بجلبابه الأسود الفضفاض، وعمامته التي تكبس أذنيه وبعض وجهه؛ جالساً بين غرائر الفول على ظهر المركب المبحرة إلى الشمال، يحصي ربحه ونفقاته، وقد اغبرت لحيته وعلا التراب كتفيه. ونهض في الصباح فنسى كل ما كان من أمره. وصعدت إحدى صواحبه إلى السطح لبعض شأنها، فحياها وحيته وهو يبتسم، كأنه يخفي عنها مفاجئة سارة. وعادت الفتاة وعاد إسماعيل إلى شئونه
وأوقد النار وراح يهيئ الفول بيده على طريقة بلاده؛ سوف لا يتغذى في المدرسة هذا اليوم لأنه يوم عطلة، وفي فطوره الفول ما يغني عن الغداء، فلا تختل ميزانيته اليوم!
ومر يومان وراح يكشف عن بخته بين أوراق النصيب. . . وترقب الفتيات أن يسمعن غناءه فيصعدن إليه، ولكنه لم يعد، واستقل أول قطار إلى الصعيد. . .
مائة جنيه! يا للبخت! لم تكن أحلامه لترتفع إلى ذاك! إنها لثروة. وقسم النقود قسمين، واشترى حافظه ثمينة فوضع فيها بعض ما ربح، وخاط جيبه على الباقي. . . لقد دبر أمراً ليخدع أباه، حتى لا يحرمه المال كله!
وخرج الشيخ متولي من المسجد يداعب سبحته بيده ويتمم بالتسبيح والدعاء، وهو في هم لمقدم ولده من غير داعية. . . وقبل الفتى يد أبيه، وقال له وهو يبتسم:
- الحمد لله على سلامتك يا ابي، لقد كنت مشتاقا إليك!
- مشتاقاً إلي! وهل جئت من اجل ذلك؟ حسبتك رجلا إسماعيل!
- نعم. . . ولكن. . .
لكن الرجل يجب أن يكون على قوة احتمال وصبر، ولست ولدي إن لم تكن رجلاً
- بلى، وإنما قدمت لأمر. . .
- أي أمر؟
- لقد ربحت خمسين جنيهاً فرأيت أن أجعلها عندك!
- خمسين جنيهاً؟
- نعم!
وانبسطت أسارير الرجل، وداعبت شفتيه ابتسامة، واتسعت حدقتاه، وعاد يقول:
- ومن أين لك رأس المال؟ لم تخبرني من قبل انك في تجارة!