هذا فؤاد بك سليم، وهذا الدكتور أحمد فؤاد المصري نزيل الآستانة، وهذا عبد الملك حمزة بك، وهذا عوض بحراوي بك، وهذا فلان: وأشار إلى واحد منهم سماه باسم إسماعيل بك، بل قد نسيت إن كان (إسماعيل) اسماً له أو اسماً لأبيه. وكان هذا الفتى النجيب مربوع القامة أبيض اللون بديناً. وكان أكثرهم مرحاً وتفاؤلاً وأقلهم مبالاة بما تأتي به الأقدار.
وقضينا أيها السادة مع هؤلاء الفتية المؤمنين بربهم وبوطنهم ساعة من الزمن في مطايبة ومفاكهة وأحاديث مختلفة ثم كنت أزورهم من وقت إلى آخر. وكان الشيخ شاويش يغيب عن الكلية لمراجعة مقر القيادة التركية في بعض المهام ويترك الأشبال في عرينهم ينتظرون إيابه بلهفة وفرط استشراف. وكانوا في غيبته أحياناً يفكرون ويقدرون، وطوراً يزأرون من الغيظ ويزمجرون. ثم يعود الشيخ إليهم بما يسرهم تارة، ويؤلمهم تارة أخرى.
كلما ذاق كأس بأس مرير ... جاء كأس من الرجاء معسول
واتفق ذات ليلة أيها السادة أن تركت غرفتي وتخطيت الرواق المؤدي إلى عرين الأشبال أزورهم. وكان يتدلى من سقف الرواق قنديل قديم من قناديل الأديرة يتنفس عن أشعة ضئيلة لا تتبين معها الأشباح إلا بصعوبة؛ وإذا بشبح كالعملاق يعترضني ويلقي بتجليده عليَّ قيل أن يتوسمني أو يتبين من أنا، فسألته قائلاً:
- من يكون حضرة الأخ؟
- عبد الحميد سعيد (قالها بلهجة المشتاق ألمتحبب وعجب من سؤالي مع أن طوله وعرضه رحمه الله ينبئان عن شخصه ثم قال)
- ألست الشيخ عبد العزيز شاويش؟
- لا: بل أنا عبد القادر صديق الشيخ شاويش ومغربي مثله.
فتبسم ضاحكاً من قولي وعجب من هذا الشبه بيني وبين صديقه. وانقلبنا إلى مأوى الأشبال متشابكي الذراعين نحدثهم بما وقع. فقامت فيهم ضجة صاخبة مرحة قللت من العبوس، ورفهت بعض الشيء عن مخاوف النفوس، وكان (عبد الحميد بك سعيد) حين جئت الكلية من طرابلس غائباً في قضاء مهمة وراء منطقة القدس. فلما رجع ودخل على إخوانه هللوا لمقدمه؛ وكان أول ما سألهم عن صديقه الشيخ شاويش فقالوا: هو في المنامة