للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاطر الفطرة سبحانه؛ فإن الإنسانية بعلومها الطبيعية الحديثة إذا كانت قد اهتدت إلى اطراد الفطرة في المادة والطاقة، فإنها لما تهتد إلى الفطرة ولا إلى اطرادها في الاجتماعيات. فهي في فلسفاتها ومذاهبها الاجتماعية في البلبلة والاضطراب الذي ترى، والذي لا ترى له مثيلا في الطبيعي من العلوم.

وقاله تعالى (لا تبديل لخلق الله) في موضعها من الآية ليس فقط وصفا للفطرة التي فطر الحق سبحانه عليها الإنسان وغير الإنسان من حيث اطراد السنن وثبوتها، ولكنهأيضاًأمر وتشريع ألا يبدل الإنسان دين الله بتشريع من عنده كما فعل المسلمون ويفعلون منذ اتصالهم بأوروبا في القرن التاسع عشر حين اتخذوا ويتخذون منها إماما، ومن قوانينها ونظمها الاجتماعية بديلا من أحكام الله. ثم هوأيضاًتوكيد، أي توكيد لما أمر الله به في صدر الآية الكريمة من إقامة الوجه للدين في تصميم وعزم، وانصراف كلي إليه، وميل عن كل ما سواه، وإلا تعرض في روحه واجتماعياته لكل ما يتعرض له ممن يخالف قوانين الفطرة وسننها في المادة وما إليها. ومن العجيب أن الإنسان مقبل كل الإقبال على الانصياع لما يعلم من قوانين الفطرة في المادة والطاقة لا يجترئ على مخالفها في معامله ولا في مصانعه، فنال بذلك ما نال من القوة المادية الهائلة التي حملته وتحمله على الغرور والاعتزاز، ثم هو منصرف انصرافاً كبيراً عن الانصياع لقوانين الفطرة في الروح والاجتماع بانصرافه عن الإسلام دين الفطرة: دين الله، واجترائه عليه بالشك ولتشكيك، والإهمال والتجريح، أو بالتأويل والتبديل، والتحريف والتعديل، كيفما شاء هواه فكان عاقبته أن صار قزمًا في الروح عملاقاً في المادة، أو قزماً الناحيتين الروحية والمادة كلتيهما وكان عاقبة المسلمين بتركهم الدين وانخداعهم عنه ما نرى من الضعف والمهانة حتى اجترأ عليهم من لم يكن يدفع عن نفسه، وكان عاقبة الغرب حين لم تجد قوته المادية قوة روحية تكبح جماحها أن تعاورته الخطوب ودمرته الحروب وفرقته المذاهب والأهواء شيعاً لا اتفاق لها ولا أمل في اتفاق.

ومن أعجب عجائب تلك الآية الكريمة وأكبرها وأبهرها وصفها الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس وهذا شيء فوق العق البشري أن يتصوره، فضلاً عن أن يسبق إليه في القديم وفي الحديث. والإنسانية إلىالآنلا تعقل إمكان تحقيقه؛ فلا فلاسفتها ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>